يعيش كريم مع والديه وأخته زينة في شقة مطلة على ساحة البلدية في الطابق 23 من برج سكني كبير في وسط المدينة، ويعيش جداه في شقة مجاورة.
قبل شهر ظهر بين الناس فجأة مرض معدٍ سريع الانتشار اسمه كورونا.
خاف الناس من العدوى، وأغلقت المدارس والمجمعات التجارية الكبيرة والمطاعم وكل الأماكن التي يتجمع فيها الناس، حتى المكتبة العامة القريبة منهم أغلقت. كما طلب من سكان البرج السكني ألاّ يستعمل المصعد أكثر من ثلاثة أشخاص معاً. وطلب من الناس التزام بيوتهم وعدم الخروج إلاّ لسبب ضروري.
التزمت عائلة كريم بالبقاء في البيت للوقاية من المرض، وكانوا جميعاً يتبعون التعليمات الصحية كغسل اليدين وتعقيم الأشياء التي يستعملونها ووضع كمامة على الفم والأنف عند دخولهم أماكن مغلقة مع أشخاص آخرين. وكانوا يخرجون في مشوار يومي لمدة ساعة ليستنشقوا الهواء النقي، وأحياناً لشراء احتياجاتهم من المحال التي بقيت مفتوحة لتزويد الناس بحاجاتهم الضرورية.
في المشوار اليومي كان كريم يحب الخروج مع جدّيه.
كانوا ثلاثتهم يخرجون إلى الحديقة العامة القريبة، حديقة صغيرة لكنها جميلة، فيها بركة ماء وأنواع من طيور البط والسناجب والطيور المغردة.
أحياناً كانت زينة ترافقهم.
في الطريق من البناية إلى الحديقة يركض كريم أحياناً فتناديه جدته وتطلب منه ألاّ يبتعد، وأحياناً يمشي إلى جانب جده، بينما جدته تتصل بالأقارب والأصدقاء من هاتفها المحمول للاطمئنان عليهم وطمـأنتهم.
كريم يحدّث جده عادة بما يخطر على باله من أفكار، ويطرح عليه أسئلة تدور في تفكيره، أحياناً يجد الجد أجوبة لأسئلة كريم وأحياناً يعده بالبحث عن الجواب من خلال الإنترنت حين يعودون إلى البيت.
كريم يحب مشاهدة أفلام الكرتون “الأكشن” والخيال، وهذه تجعله يفكر ويطرح على جده أسئلة صعبة لا يستطيع الجدّ أحياناً الإجابة عنها.
سأل جده في الطريق إلى الحديقة: جدي، هل يوجد غطاء للفضاء؟
أجابه جده: لا يا عزيزي، لا يوجد للكون نهاية، لا أحد يستطيع الوصول إلى نهايته.
أضاف كريم متسائلاً: ولا سفينة فضائية كبيرة، قوية وسريعة؟
أجاب جده: لا، هذا الكون مفتوح، ستذهب السفينة الفضائية عبره وتمر بنجوم وكواكب كثيرة لا يمكن عدّها ولن تصل نهايته.
استغرب كريم من ذلك، وصمت لفترة وهو يفكر بالأمر.
عندما وصلوا الحديقة كان هناك عدد قليل من الناس، فقط أربع عائلات، كل عائلة تقف في مكان بعيد عن العائلات الأخرى، لأن الناس يخافون من العدوى وانتشار المرض.
الجو جميل، الشمس مشرقة، ولولا التزامهم بالبقاء في البيت للوقاية من المرض لكانت العائلة جميعها الآن في رحلة إلى شاطئ البحيرة، أو إلى أحد المتنزهات الكبيرة التي تحتوي الألعاب التي يحبها كريم كالمراجيح والسيسو والسحاسيل، وفيها أيضاً أماكن واسعة للعب بالكرة.
كان كريم قد أحضر معه كيساً من الفستق لإطعام السناجب وكيساً آخر من قطع الخبز لإطعام طيور البط التي تعيش في بركة الماء التي تقع في وسط الحديقة، والتي لم تهاجر كغيرها من طيور البط التي تهاجر في فصل الشتاء الثلجي إلى مناطق الجنوب الدافئة.
الأمر غريب، السناجب غير موجودة، عادة تكون قرب مدخل الحديقة تقفز من مكان إلى آخر وتقترب من الناس وتنظر إليهم وكأنها تطلب طعاماً.
كان هناك سنجاب أسود واحد فقط. اقترب السنجاب من كريم، وضع كريم أمامه على الأرض حبتيْ فستق. تناولهما السنجاب وركض مبتعداً، حفر بين الأعشاب ودفن واحدة، ثم تسلق سور الحديقة الخشبي وحبة الفستق الثانية في فمه وبدأ يأكلها وهو واقف على طرفيه الخلفيين وممسكاً بها بطرفيه الأماميين، كطفل يحمل ساندويشة ويأكلها.
عاد السنجاب واقترب من كريم أكثر، أراد كريم أن يطعمه الفستق من يده مباشرة، لكن جده نصحه ألاّ يفعل ذلك لأن بعض السناجب تعض وقد تكون مريضة. وضع حبة أخرى من الفستق فكرر السنجاب ما فعله في المرة السابقة، ولكنه هذه المرة لم يرجع بعد أن أنهى أكلها، بل تسلق شجرة الصنوبر القريبة وجلس على أعلى غصن فيها ينظر إلى كريم.
ضحك كريم وقال: يبدو أنه قد شبع، لنبحث عن غيره.
لمح كريم سنجاباً بنياً يركض قريباً، حاول الاقتراب منه لكنه هرب واختفى داخل شجيرات كثيفة. انتظر خروجه عسى أن يقترب منه، لكنه خرج مسرعاً وابتعد إلى الأشجار الموجودة في طرف الحديقة البعيد وتسلق إحداها.
تساءل كريم: جدي، لماذا يخاف هذا السنجاب منا؟
قال جده: ربما آذاه بعض الأطفال وصار حذراً، أو أنه ليس جائعاً، أو أنه رأى الناس متباعدين فأراد أن يعمل مثلهم، لا ندري.
ضحك كريم: جدي؟! هل يفهم السنجاب ذلك؟
قال جده: أنا فقط أمزح، لا أدري.
قال كريم: لو كنا نفهم لغته مثل الدكتور في الفيلم الذي شاهدناه قبل أسبوع لكنّا سألناه وعرفنا منه الجواب.
ثم عاد كريم للسؤال: جدي، هل صحيح أن ذلك الطبيب كان يفهم كلام أصدقائه من الحيوانات؟
قال جده: لا أعتقد، هذا خيال، أنت تحب الخيال يا كريم، أليس كذلك؟
ضحك كريم: نعم، أحب أن أتسلى بالخيال.
توجهوا إلى البركة، وقف كريم عند حاجز البركة مستعداً لإطعام طيور البط.
لاحظ كريم عدداً من السلاحف على صخرة عند طرف البركة، اعتقد في البداية أنها ليست حقيقية، بل تماثيل صغيرة وضعت على الصخرة، خاصة أن لون قوقعتها يشبه لون الصخرة التي تقف عليها، ركّز نظره أكثر، حركت إحدى السلاحف رأسها.
صاح كريم بانفعال: جدي، جدي، فعلاً إنها سلاحف حية!
قال الجد: نعم، إنها مسترخية تستمتع بأشعة الشمس، انظر، كلها قد أخرجت رؤوسها وأقدامها.
عاد كريم إلى التساؤل: وهل تستطيع أن تسبح؟
اقترح الجد: لنطعم البط الآن ونراقبها لنرى إن كانت تستطيع السباحة.
بدأ بإطعام البط.
حين كان يرمي قطعة الخبز تهجم عدة بطات وتتسابق للوصول إليها، بدا الأمر مسلياً جداً لكريم.
فكّر كريم: هل تأكل السلاحف الخبز؟ جرب أن يرمي لها قطعاً من الخبز على الصخرة محاولاً أن يجعلها تستقر أمام السلاحف، لكنه لم ينجح في ذلك، كانت القطعة تضرب بالصخرة وترتد لتسقط في البركة فتسرع البطة القريبة لالتقاطها من الماء. طلب من جده أن يحاول إيصال قطع الخبز إلى السلاحف، فحاول الجد أن يسدد بشكل أفضل، ولكنه هو الآخر لم ينجح.
نزلت إحدى السلاحف إلى الماء وبدأت بالسباحة، فنادى كريم جده الذي كان قد ابتعد عنه ليتحدث مع الجدة: جدي! جدي! السلحفاة تسبح، انظر، إنها تسبح.
أظهر الجد اهتماماً بالأمر: عظيم، لقد عرفنا الآن أن السلاحف البرية تسبح أيضاً.
وصلت السلحفاة إلى صخرة صغيرة قريبة من الطرف الآخر للبركة، تسلقت الصخرة ثم توقفت هناك.
توقفت إحدى البطات التي كانت تسبح قريباً مقابل السلحفاة، ثم حركت السلحفاة رأسها باتجاه البطة.
لاحظ كريم أن كلاً منهما تهز رأسها.
قال كريم لجده: جدي، أعتقد أن السلحفاة والبطة تتحدثان.
الجد: أتعتقد ذلك؟ وعن ماذا تتوقع أنهما تتحدثان؟
كريم: لا أدري، ولكن أعتقد أنهما صديقتان.
الجد: عظيم، ولكن لماذا تعتقد ذلك؟
كريم: لأن السلحفاة لم تخف من البطة، لم تدخل رأسها وأقدامها في قوقعتها.
احتضن الجد كريم، ونادى الجدة: تعالي اسمعي، كريم يفهم لغة السلاحف والبط.
حضن الجدان كريم وضحكا طويلاً.
فجأة اقترب السنجاب البني منهم فرمى له كريم آخر حبة فستق معه، فحملها وذهب بعيداً ليأكلها.
قالت الجدة: بعد هذا الاكتشاف وهذا المشوار الجميل، دعونا نعود إلى البيت فالبقية بانتظارنا للغداء.
رد كريم: ممكن بعد قليل. تلك البطة لم تأكل، دائماً كانت البطات الأخرى تسبقنها، إنها هناك لوحدها، أريد أن أذهب قربها وأطعمها، حرام، إنها أكيد جائعة.
هزت الجدة رأسها موافقة.
أسرع كريم نحو البطة، ألقى أمامها قطعة خبز بهدوء، تناولتها بمجرد وصولها الماء، ثم ألقى قطعة أخرى وتناولتها كما في المرة الأولى. عندما ألقى القطعة الثالثة انتبهت بطات أخرى وهجمن، لكن البطة الجائعة استطاعت أن تحصل عليها قبلهن.
عاد كريم إلى جدّيه فرحاً، ومضوا ثلاثتهم نحو بوابة الحديقة عائدين إلى البيت.
عند البوابة تقدم نحوهم السنجاب البني، اقترب منهم دون خوف، ونظر باتجاه كريم.
شعر كريم بالحزن لأنه لم يعد لديه ما يطعم السنجاب، وأخبر جده بذلك.
قال له الجد: لا تحزن، أعتقد أنه جاء يشكرك، ولم يعد يخاف منك.
قال كريم موجهاً حديثه للسنجاب: أراك في المرة القادمة وسأحضر لك الفستق، لقد تسليت معك، أنا اسمي كريم وسأناديك سنجوب، جيد؟ شكراً سنجوب، إلى اللقاء.