ليس من اللائق أن نتفلسف كثيرا على قرائنا الأعزاء وفيهم من هو أعلمُ منا وأكثرُ ذكاء وخبرة في السياسة ودروبها الصعبة الملتوية الموحشة.
وجُلهُم يعرف جيدا أن أمن إسرائيل، وحدَه، المُهم، ليس لأمريكا وحدها بل لأوربا وروسيا والصين وغيرها، وصولا إلى الصومال وجيبوتي.
ولا تقاس أوزان الحجر والبشر في الدول المحيطة بإسرائيل، والقريبة منها، والبعيدة أيضا، إلا بمقدار دوره في حماية لياليها الساهرة، وحدائق مستعمراتها الزاهرة، وشواطئها المزدحمة بالعريانين طلبا للحب والدفء والشالوم.
عودونا، من أوائل القرن الماضي وإلى عامنا هذا في قرننا هذا، على أن الحاكم العربي لا يأتي على حصان عربي أو صيني أو روسي، بل يُفبرك (نسبة للفابريكا) في مصانع غربية خالصة، بقوالب بريطانية أو فرنسية أو إيطالية أو ألمانية سابقا، وأمريكية لاحقا، أو مختلطة أميركية أوربية إسرائيلية، وبموديلات متعددة، وأحجام متنوعة، وألوان مختلفة.
وحتى الحاكم الذي يركب صهوة الحكم بالوراثة يجد نفسه مُجبرا على أن يختار واحدا من اثنين، إما الترحيل (بانقلاب أو بحَجْرٍ صحيٍ أو بخنجر مسموم أو رصاصة طائشة)، أو الارتماء في الأحضان الدافئة. وعندها تحدث المعجزة وينال الرضا والبركات ويصبح جهلـُه عِلما وفطنة، وغباؤه ذكاءً وعبقرية، وظلمُه عدلا، وتخلفُه حضارة، وفسادُه صلاحا ما بعده صلاح، وبخلُه كرما لم يسبقه فيه أحد.
ولو لم يمن في كفه غيرُ روحهِ
لجـــــــــاد بها، فليتقِ اللهَ سائلُه
ثم تبدأ جحافل الكتاب والمحللين العرب والأجانب بالتغني بحكمته وعبقريته وشجاعته وإلهامه، وتؤلـَّف عنه المجلدات، وتلهج الإذاعات والتلفزيونات بحمد القائد العظيم.
ويصبح من حق ولي الأمر أن يسحق من يشاء، متى يشاء، وكيف يشاء، من مواطني دولته العامرة، ولا تمسُه منظمات حقوق الإنسان، لا الوطنية ولا العربية ولا الدولية، ولن تزعجه أممٌ متحدة، ولا مجلسُ أمن، ولا منظمة حقوق إنسان، ولا سي إن إن، ولا بي بي سي، ولا فرانس برس، ولا رويتر وأسيو شتد بريس ولا هم يحزنون. فهو في كل هذه الموبقات مجاهد يحافظ على سيادة وطنه وأمن شعبه من المارقين المندسين المخربين الإرهابيين.
ويستمر عهده آمنا مطمئنا دون اهتزازات ولا انتكاسات ولا انقلابات. فلا أخٌ يتآمر على أخيه، ولا إبنٌ ينقلب على أبيه، ولا إبن أخ يغتال عمه، ولا إبن أخت يفضح خاله، إلا إذا ركبه غرور القوة وجبروت السلطة وفكر، ببلاهة وجهالة، في شق عصا الطاعة، ولو على قدر شعرة واحدة. وبهذ وبذاك تبقى النتيجة واحدة، وهي أن الحاكم الحقيقي في دولنا العربية المجاهدة هو (سعادة السفير الأجنبي)، أو قائد القوات “الصديقة” المقيمة على أرضنا المقدسة، ضمن “حدود السيادة الوطنية” طبعا، ولضرورات “الأمن القومي” والمصالح المشتركة.
كل هذا تعرفه الشعوب المغلوبة على أمرها، وتكتم غيضها، في انتظار الفرج الإلهي المحتوم.
فمن مئة عام، وحرصا على أمن إسرائيل وحماية لحدودها، دماؤنا تسيل، من المحيط إلى الخليج، وبيوتنا تدك على رؤوس أطفالنا ونسائنا، وقرانا تمحى من الوجود، ومدننا تصبح خرائب، وملايين المعدمين تفتش في النفايات عن لقمة ساقطة من دار مُخبر أو شرطي أو شاعر أوأديب من حاشية القائد العظيم.
ليس الشعب الفلسطيني وحده ذاق الأمرين، وتوزع ثلاثة أرباعه على منافي الدنيا الواسعة، ورُبعه الذي لم يستطع الرحيل تموت منه كل يوم عشرات في السجون أو في مدن الصفيح. فمن مئة عام تتوالى علينا المصائب أجمعين. من ديكتاتور إلى ديكتاتور. ومن ثورة إلى ثورة. ومن انقلاب إلى انقلاب. ومن حرب تحرير إلى حرب تحرير، وما زلنا نقتل بعضنا ونجتث حناجر مطربينا ونكسر أقلام شعرائنا ونغتال علماءنا ونطارد خبراءنا، من أجل فلسطين وتحرير قدسها الشريف.
أما الشعب السوري فواحد من شعوب هذه المنطقة المنكوبة التي غضب الله عليها حين أجلس نتياهو إلى جوارها. ولو كانت سوريا جارة الفلبين أو ماليزيا أو البرازيل لاقتلعت عين بشار ولقطعت يد ماهر، وهدأت واستقرت وانصرفت لزراعة القمح والعنب والرمان والفل والياسمين، من زمن طويل. ولكن السيد نتياهو لم يتخذ، بعدُ، قرار العفو العام عن السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والتونسيين والليبيين والمصريين واليمنيين والإيرانيين والأفغان وقبائل باكستان.
بعد كل هذا هل يحق لأحدٍ منا أن يَعجَب ويستغرب هذه الاستدارة البهلوانية المذهلة التي استدارها السيد جون كيري الوسيم؟. إن الذي فعله هو الصحيح، وهو المتوقع من أول ساعات اندلاع ثورة الشعب السوري الخارج على القانون.
فبعد بياناته الغاضبة وإعلانات رئيسه الصارخة برحيل الديكتاتور الذي فقد شرعيته وأضاع إنسانيته، يخرج السيد كيري باسما منشرح الأسارير، وإلى جانبه الوزير الروسي الضاحك المنتصر على نساء سوريا وأطفالها وشيوخها ومنازلها الآيلة للسقوط، ليبعث إلى أخيه بشار قبلة طائرة ساخنة، مرفقة بالشكر الجزيل على هديته الأسدية الممانعة العاجلة التي زفها، وبسرعة فائقة، لأخيه نتياهو ولدولة إسرائيل وأمن مفاعلاتها النووية العامرة الصامدة.
(شكرا أخي بشار): سلاحك الكيمياوي هو كل ما نريد، وأما ما عداه فنصفه لك تفعل به ما تشاء، أنت وحلفاؤك سليماني ونوري المالكي وحسن نصر الله والبطاط، ونصفه الثاني لجبهة النصرة ودولة العراق والشام الإسلامية ولباقي المجاهدين. التوقيع أخوك المخلص جون.
وكلنا، نحن كتابَ الصحف العربية المجاهدة وقراءَها، من زمن طويل، نعلم بأن من غير المسموح بقاءَ جيش عربي واقفا على قدمين، وبأن من غير المباح أن يترجل ديكتاتور إلا عندما تأمر التجارة وحسابات الربح والخسارة، وأن من غير الجائز ولا المقبول أن يأتي حكامٌ جدد يافعون يغنون للديمقراطية والعدالة والتنمية والدولة القوية الآمنة.
ومن أجل دفن جثث القتلى السوريين ولملمة أشلائهم المبعثرة، بصمت ودون ضجيج الفضائيات المزعجة، فقد أهابوا بإخوانهم في مصر أن يحملوا السلاح لقتل إخوتهم في الشرطة وفي المساجد والكنائس ومدارس الأطفال، وتدويخ الجيش المصري بلعبة القط والفار التي لا تنتهي.
ومنعوا ليبيا من أن تعود إليها صحوتها، وأمروا المسلحين الملتحين بألا يلقوا سلاحهم، وأن يظلوا يسرحون ويمرحون، يخطفون ويقتلون ويحرقون.
وأشعلوا حرائق السودان. ووسعوا مسالخ العراق، وعمقوا جراح لبنان وتونس. ولا أحد يدري من (سيأتي عليه الدور بعد)، على رأي الأخ العقيد.
فهل بعد هذا كله سيبقى وقت في الفضائيات العربية والأجنبية لأخبار قتلى حمص وحماة ودمشق ودرعا واللاذقية والغوطتين؟؟
أمريكا تتقلب على الجنبين. وسيذكر التاريخ أن الرئيس باراك أوباما أكثر رؤسائها شطارة في فعل الشيء وضده في آن. لا تعتبوا على الرجل، فإنه يحب الراحة والاسترخاء وعدم فعل أي شيء. إنه حكيم يدع الخلق للخالق، ويترك للزمن مهمة مواساة اليتامى وتعزية الأرامل، ويؤجل تحقيق أحلام بني آدم في العدل والشرف والفضيلة إلى عهد رئيس أمريكي قادم جديد يرضى عنه جون ماكين وأحمد الجربا وعبد الفتاح السيسي وسليم إدريس. وكفى الله المؤمنين شر القتال.