كنت اجلس متوترا ومتأملا حاسوبي في أحد مقاهي كوالالمبور، محاولا أيجاد التوليفة الذهبية بين إرضاء المشرف الماليزي، وعدم غلق ملفي الدراسي من قبل وزارة التعليم العالي كغيري من طلبة الدراسات العليا العراقيين.
تنبهت إلى رجل يماني كبير في السن يجلس بجانبي، كان يرتدي ملابس اعتيادية يبدو عليها القدم، ما استرعى انتباهي هو توافد الطلبة اليمنين الى طاولته، ومعاملته باحترام وتلقيبه بالـ(عم)، فضولي العراقي جعلني أنصت إلى كلامهم في محاولة لمعرفة ماهية العم.
كان الطلبة يشرحون مشاكلهم مع الجامعات والمشرفين، وهي مشاكل شبه مشتركة مع الطلبة العراقيين مع فرق أننا نحارب من وزارتنا أيضا، لم أفهم بداية ما علاقة هذا الرجل بالطلبة، هل هو من سفارتهم، أم من الملحقية.
الصدمة ما علمته لاحقا أنه أحد المسؤولين بالحكومة اليمنية، الذي دأب رغم ما تعانيه اليمن من حروب على زيارة الطلبة المبتعثين، لمعرفة حاجتهم من الحكومة اليمنية، ومحاولة تذليل مشاكلهم مع الجامعات والحكومة الماليزية، وحث الطلبة على التقدم العلمي لأن البلد بحاجة أليهم لأعماره بعد أن تضع الحرب أوزراها.
ما بدا لدي غريبا هو حالة اعتيادية تقوم بها كل الدول عدا العراق، فلم يزر أي مسؤول حكومي ماليزيا البلد الأكبر بعدد الطلبة العراقيين المبتعثين منذ أربع سنوات، إلا زيارات سرية للاستجمام غالبا، وعانى الطلبة من مشاكل عدة، أهمها قرارات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فمنذ ثلاث سنوات لم يصدر أي قرار يصب في مصلحتهم، طبعا قد يكون السبب عدم شمول ماليزيا بانتخابات الخارج أو الموضوع أكبر بكثير.
فهو جزء من مشكلة عراق اليوم وهو عودة (الشقاوات)، ولكن هذه المرة ليس في أزقة بغداد ولكن داخل الحكومة العراقية، فالمعروف أن الشقاوة شخصية ظهرت ببغداد بين عشرينات الى خمسينات القرن الماضي، وغالبا ما يكون عاطل عن العمل يستغل قوته العضلية للاعتداء على الناس وابتزازهم لأخذ المال (الخاوة)، وبعضهم لا يتعرض لهم رجال الشرطة أما خشية، أو لوجود اتفاق سري بينهم.
نعم هنالك اشخاص يلعبون دور (الشقاوات) في الوزارات والدوائر الحكومية، فمع فسادهم المالي والإداري وظلمهم للناس، ألا انه لا أحد يجرأ على مسهم، ولا يخرج أحدهم من منصبه ألا لتعرضه لشقاوة آخر اقوى منه، أو بمعجزة الهية.
أحد هؤلاء (الشقاوات) موجود في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وهو مسؤول عن معاناة طلبة العراق الدارسين بالخارج، فهو أصلا ليس من خريجي جامعات الخارج، وليس في الأمر مثلمة ولكن من باب التخصص ومعرفة أنظمة وقوانين الجامعات ، وكذلك فقد تم استجوابه بالبرلمان سابقا، وكانت هنالك دعوة لاستجوابه ثانية وأقالته من قبل نواب معروفين مثل كاظم الصيادي وهيثم الجبوري، الذين توقفت مطالباتهم فجأة، ولم يذكروا ملف التعليم العالي ثانية، ولم يتبنى القضية أي مسؤول إلا وأنسحب بعد فترة وجيزة، كذلك لم يفتح هذا الملف بأي قناة تلفزيونية، ما سر هذه القوة؟ وكيف يكون أي شخص صديق لكل الأحزاب العراقية المتنافرة؟
مهما كان السبب لوجود هذا الشخص وأمثاله في الوزارات العراقية، فهذا أن دل يدل على شيء واحد هو عدم مصداقية دعاوي محاربة الفساد التي تطلقها الأحزاب، وانهم كلهم مشتركين بالفساد بلا مجاملة أو استثناء.