17 نوفمبر، 2024 6:37 م
Search
Close this search box.

شعرية المرايا بين الغائب و الشاهد و الفاعل الشعري

شعرية المرايا بين الغائب و الشاهد و الفاعل الشعري

مدخل :
لقد تحكمت القابلية الدلالية و البنائية في جملة تداعيات و محاورات و مونولوجات قصائد مجموعة ( حذام ) إلى شكلية خاصة من فاعلية التعديلات و التعويضات التشكيلية و الرؤيوية ، التي راحت تتعدى بدورها حقيقة تعيينات الواقعة المرجعية الحياتية ، كتجربة أخذت حيزا شائقا من انتقالات فواصل الشاعر الذاكراتية و الصياغية و التصويرية الكبيرة . و عندما نتوقف عند أعتاب مواقع القصائد في مشروع مجموعته الرثائية ، لعلنا نحظى باستعانة الشاعر بالوسائط التقنية التصويرية الهائلة . كحال تقنية ذاتية ( شعرية المرايا) كحالة شعرية نموذجية أخذت تؤشر حول مدى تركيبة الملفوظ الشعري لدى الشاعر ، كمرسلة مؤشراتية من شأنها تلمس مرويتها الاستعادية عبر حاضنة دلالة ( المرآة ) كثيمة علامية راح من خلالها الفعل الشعري يستدرك لذاته العلاقة الاحوالية العاكسة في متن مؤسسات القابلية الشعرية لدى رؤية الشاعر . وهذا بدوره ما وجدناه شاخصا عبر القصيدة الفرعية المعنونة ب ( المرآة ) :

عبرت بك المرآة
جسر
تعبرينه في المساء إلي
ضوء قوارب ( تأتي و تذهب )
موجة …
و تكاد تغرقها المياه
و أنت
أنت مليكة الأنهار . / ص26

تحكمت في رؤية ( شعرية المرآة ) ثمة مخيالية انعكاسية حادة ، مصدرها فواصل و توقفات و استرجاعات زمنية متخيلة ، أخذت تتكفل مقتبسات حوارية ما تقع بين (الاسترجاع الزمني ) و دلالة السياق المتني المتمثلة بجملة (جسر = تعبرينه = المساء = الغياب = الذاكرة = الأنا الواصفة ) كما يعلن و يحدد الشاعر صيغة الزمان الخارجي كأداة فصلية من شأنها تجزئة منظور الخطاب إلى حالة مروية أخذت تحدد مهيمنات وحدات الذاكرة المتلفظة ، كنزعة استرجاعية حاصلة بالحلم المحمول على عاتق الرؤية المكانية البصرية : ( ضوء = دلالة انبعاث / تأتي و تذهب = احتمالية الزمن المستعاد = سقوط الغياب اللامتعين ) و لكننا بعد حين من تصدير الواقعة الصورية في مشاهد النص ، نلاحظ ورود المبتغى الرمزي بالمرموز التشكيلي كقول الشاعر : ( موجة … ) فهل إن علامات التنقيط قد حلت في نهاية الكلمة استعدادا لإضفاء متداولة موقعية المحذوف مثلا في نهاية بياض السطر ؟ لعل هذا الشكل من الحذف ما هو إلا جهة سببية و تكوينية من جهة ما غايتها إحلال اداة الربط و إضفاء علاقة مغيبة أو مرمزة في طيات بياض الاستطراد المحذوف من النص ؟ و عند متابعة قول الشاعر بالكامل : (موجة … / و تكاد تغرقها المياه / و أنت / أنت مليكة الأنهار ) يتلخص لنا المعنى القصدي في مجال إيحائية دوال و أفعال النص اللاحقة ، كحال بروز ضمير المخاطب (وأنت كلازمة متكررة في مبنى المتن ، مما راحت تشكل كأمكانية دلالية نستخلص من وراءها حضور علاقة دليل ( الشاهد + الغائب + الفاعل = أنا الشاعر ) و من هذه الجوانب العاملية ، نعاين حلول نوعية التوصيف الترميزي في جملة اللاحق (أنت مليكة الأنهار ) وصولا إلى امتدادية الرؤية الشعرية ، كمشخصات مقترنة بهوية تلك الذات الغائبة :

تسبقك السلاحف في الطريق
حذاؤك الوردي يلمع في الغبار
حذاؤك الوردي عند الباب
تدنو شرفة ٌ
و تلوح في المرآة سدرتك الحبيبة . / ص27
الشاعر هنا يستثمر مؤثثات المكانية الاسترجاعية ، مما راح يوفر له صورة رمزية كامنة في الدوال الشعرية بذاتها ، إذ هو ينقاد عبر هذه الترسيمة المفترضة منا : ( تسبقك السلاحف = دلالة حلمية / حذاؤك الوردي يلمع في الغبار = الضدية المشهدية بين الموت و الحياة / حذاؤك الوردي عند الباب = إفادة من الحياة الذاكراتية المسترجعة / تدنو شرفةٌ .. و تلوح في المرآة سدرتك الحبيبة = زمن داخلي = زمن كالحلم الكئيب = الانشغال بالنزوع الوصفي للذات الواصفة و التمرير لحلولية الحالة المتخيلة ) و تبعا لهذا نعاين تكريسا للمنظور المراوي عبر حقيقة و هوية و كينونة ( الذات الشعرية / الآخر الموصوف ) و المتشكلان دراميا عبر فرضية ملامح كائنية المرجع و النص و الذاكرة .

ـــ الغائب بين اللامحدد إلى احتمالية المحدد .
تتضاعف وظيفة ملامح المسار الدلالي في قصيدة ( المرآة ) وصولا إلى بلورة رؤية الغائب بين كينونة اللامحدد إلى مجاهيل أحتمالية المحدد ، فيما تواجهنا في المقاطع الأخيرة من النص ، ثمة مكونات ملفوظية كشفرة رثائية محكمة أخذت تطيل في محكياتها و نداءاتها و وصور غاياتها التحفيزية الممنوحة بدليل الارتباط العلائقي في محصلة الوظائف الدوالية المؤثرة :

يستطيل النخل
و الأسماك تلمع
و الصِغار يجدفون
ـــ حُذام .. هل تأتين ؟ ص27

من هنا تتحرك الذات الواصفة نحو مركز الاشارة الحوارية بدلالة الحلم و بمعطيات جاذبية كائنية الآخر المتداخل بحركة الأشياء الطبيعية : ( النخل = الأسماك = الصِغار = يجدفون =دلالة التجديف في الزمن اللاواقعي ) وصولا الى بؤرة اللامحدد واقعيا ( حُذام ) غير أن الزمن الوصفي في مخيلة الشاعر راح يستعيد مفردات الأضداد التخاطبية المفترضة في صيغة الجملة ( هل تأتين ؟ ) إذ يزحف الزمن هنا و في منطقة اللامكان ليتجلى لنا الحس الصوري و التصويري في مقاطع النص ، كحكاية غابرة تتوازى من خلالها تجربة ثلاثية ( الغائب / الشاهد / الفاعل الشعري ) لينحصر لنا أخيرا من خلالها الفارق الزمني في نوعية تطابقات الحالات المحددة بموجودية الأشياء حصرا و دون حاضرية اللامحدد المتمثل بدال ( حُذام ) :

تبتعد القوارب
صفحة بيضاء
كان النهر
كانت ليلة أخرى
و تعقبها ليالٍ
و الصغار يجدفون
يجدفون يجدفون . / ص27

ـــ تعليق القراء ـــ
مما لاشك فيه تبقى هذه العلاقة الملازمة في دال ( يجدفون) أكثر الخواتم الشعرية بعدا بالفروق الاحوالية و الدلالية و البنائية ، فتكرارية لازمة ( يجدفون .. يجدفون .. يجدفون ) ما هي إلا علامة ترميزية أخذت ترتفع بلغة التجديف نحو تلك الشعرية الضاربة نحو الظروف الزمنية اللاممكنة و السببية اللافاعلة ، لتبدو لنا مؤشرات الحركة الدوالية الأخيرة كما لو أنها إبراز لأخصائص التجديف في اللامكان و في اللازمان و في اللاوجود وصولا الى قابلية التفعيلة التشكيلية التي أخذت تعكسها ملامح و مسميات و رؤى الذات الشعرية المستغرقة في محكياتها الحلمية و الاستعادية لتنبثق مشعة في تمفصلات دلالات الكشف للمستور و للمرموز إليه بمعالجة حالات شعرية المرايا الاحوالية المنشطرة بين فاعلية تحولات الغائب و الشاهد و الفاعل الشعري . و تعقيبا منا على ما توصلنا إليه في دراسة هذه الحلقة من حلقات مخطوطة كتابنا ( فضاء قصيدة الفقدان ) أقول مضيفا : أخترنا موضوعة و رؤية ( شعرية المرايا بين الغائب و الشاهد و الفاعل الشعري ) و ذلك بحكم نزوع موضوعة القصيدة نحو منطقة توصيف وعي الغياب و مستوياته المتوزعة بين حضورية شاهدية حالات الأشياء الواقعية الحية و أحداث و صور اللحظة الماضوية المنتخبة من حياة الشاعر سابقا إلى جانب زوجته الراحلة ، و على هذا الأساس وحده يتم توكيد إقرار فعل السارد الشعرية في النص كمعاينى ارسالية خاصة تبث مبثوثات أزمنتها الداخلية و الخارجية في مواطن المكان و اللامكان و الذات في مسار العدم و الزمن في اللازمن ، لتتكشف لنا ختاما موجهات تركيبة تلك النصوص الشعرية التي أختصت بها قصائد مجموعة (حذام ) الثمينة في الأثر و التجربة و الأفق التصويري .

أحدث المقالات