22 ديسمبر، 2024 9:18 م

شعب لا يعرف الهزيمة

شعب لا يعرف الهزيمة

لم يكن يوم 1-102019 مثل غيره من التواريخ والأيام التي نمر عليها مرور الكرام ولم تعلق في ذاكرتنا العراقية المتوقدة , حيث شهد العراق في هذا اليوم أكبر انتفاضة شعبية ضد الظلموالفساد وسوء الخدمات والأداء السياسي الهزيل طيلة ﺍﻠ ١٦ سنة الماضية , التي اندلعت في بغداد ووسط وجنوب العراق , ونتج عنها إعلان رئيس الوزراء استقالته من منصبه , ومن ثم الشروع  بماراثون اختيار شخصية جديدة لرئاسة حكومة انتقالية , ضمن الشروط الموضوعية والذاتيةالآتية التي حددتها ساحات التظاهرات , وهي :        

1. أن لا يكون من مزدوجي الجنسية                                                                  2. أن يكون مستقلاً وليس تابعاً لأي جهةٍ أو حزبٍ سياسي معين .                                      
3. أن يكون مهنياً نزيهاً , ومن أصحاب القدرة والكفاءة .                                            
4. أن لايكون قد تسلم منصباً وزارياً او نيابياً سابقاً وحالياً .                                      

لقد احدث هذا الموضوع وإرهاصاته ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والشعبية , وتم الترويج لاستحالة تحقق هذه المواصفات , ومن أين نأتي بشخصية تنطبق عليها هذه الشروط والمواصفات !                    

وسرعان ما يأتي الجواب من ساحات التظاهرات ومن له أدنى دراية ووعي بالمناورات السياسية ودهاليزها , بأنه هل يعقل أن يُعقم رحم العراق صاحب الحضارة والتأريخ وصاحب الحرف الأولأن يخلو من شخصية تمتلك ما لا يزيد عن هذه الشروط غير التعجيزية !                                  
وبالعودة إلى توقيت 1-10-2019 أعلاه , فان موعد هذه الانتفاضة قد حدده الشباب من الناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي , باعتباره إيذاناً بانطلاق الغضب الشعبي العارم بعد أن بلغ السيل الزبى على الواقع الفاسد والذي يزداد سوءً يوماً بعد آخر , وبلدنا يزداد تخلفاً وتراجعاً وتردياً اقتصادياً واجتماعياً وامنياً, والشباب والكفاءات إحباطاً !
ومن المؤكد أن الحكومة العراقية كانت على علم بذلك , عبر مجساتها وأجهزتها الأمنيةوالاستخباراتية  , إلاّ إنها لم تأخذ هذه الدعوات والتحشيد الافتراضي لها على محمل الجد , والدليل على ذلك قيامها قبيل أيام قليلة من انطلاق هذه الانتفاضة , بإقالة الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي قائد قوات جهاز مكافحة الإرهاب من منصبه المهم والقيادي , وإحالته إلى الإمرة في وزارة الدفاع , بما يعني تجميده عملياً وتجريده من أية مسؤولية فاعلة , دون ذكر أي مبرر أو اطلاع الرأي العام على أسباب هذا القرار وحيثياته .         مع الأخذ بنظر الاعتبار حساسية هذا الموضوع ومساسه بالشارع العراقي بصوره مباشرة  , لما قدمه هذا المقاتل العراقي من تضحيات وتفانٍ وحسن إدارة وقيادة في مواجهة وهزيمة تنظيم داعش الإرهابي في عشرات المعارك التي قام بالمساهمة فيها أو قيادتها بأمرته والتي توجت بتحرير العديد من المحافظات والمدن العراقية المغتصبة ممّن كانت ترزح وأهلها تحت وطأة هذا التنظيم الإرهابي الوحشي , ممّا ولدّ صدمة وغصة في قلوب العراقيين , وأثار علامات استفهام حادة وكبيرة عن خلفية وحيثيات هذه القرارات الارتجالية المستفزة (وهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) !.                                                                    وعلى اثر ذلك انطلقت شرارة التظاهرات في ساحة التحرير في بغداد وامتدت لتشمل محافظات الوسط والجنوب وأصبحت قضية رأي عام غلب على هذه الانتفاضة .
ولقد تميزت هذه الانتفاضة بسلميتها التي تمتعت بها وشعارها الرئيس الذي لم تتخلى عنه , إلاّ إنها جوبهت بوسائل التصدي والعنف من قبل الأجهزة الحكومية المختصة , لإطفائها , ومنها إطلاق الغاز المسيل للدموع بطريقة غير مهنية , فضلاً عن كون قناني الغاز هذه منتهية الصلاحية , ممّا يعد مثالاً صارخاً من أوجه الفساد المستشري في أجهزة الدولة ومؤسساتها ومانتج عنها من إصابات مميتة , ومن ثم استخدام الرصاص الحي والمباشر , حيث بدأ يتساقط الشهداء واحداً تلو الآخر !                            وفي ظل هذه الفوضى اختلط الحابل بالنابل وتداخلت الأموروتعقدت , وبرزت جهات ضبابية وأساليب غير معروفة في التعامل مع المتظاهرين , أبرزها اغتيال وخطف الناشطين وترهيبهم وعوائلهم , , فضلاً عن التضييق على السلطة الرابعة ووسائل الإعلامالفاعلة والمؤثرة في الساحة , حيث اغتيل عدد من المراسلين والمصورين ممّن واكب الأحداثوتغطيتها ميدانياً , لنقل الصورة الحقيقية عن هذه الانتفاضة , مع عدم امتلاك هؤلاء الأبطالسوى الكاميرا وأدواتهم الإعلامية وكلمتهم الحرة الصادقة , إلاّ إنهم جوبهوا بالرصاص غدراً وبالسكاكين طعناً , وغيرها من وسائل الاغتيال الدنيئة وآلياته القذرة , فضلاً عن تعرض الخيامالتي قد نصبها المتظاهرون في وقت سابق في محافظات عدة للحرق والتدمير , إلا إن كل هذه الأساليب الوحشية والممارسات التعسفية لم تثنِ من عزيمة الشباب , الذين بادروا بأستبدال الخيامالتي تم إحراقها بأخرى مشيدة من الطابوق في ساحات التظاهر والاعتصام .
ويستحضر الذهن في هذه اللحظات عدداً من المواقف التي تقشعر لها الأبدان , ممّا تستدعي الوقوف عندها , ومنها :
عند إحراق الخيام في إحدى المحافظات الجنوبية بعيد منتصف الليل , وما أن انبلج صباح التظاهرات وساحات الحرية مبعثرة الخيم , إلاّ ونسوة رائعات ومعهن حليّهن من الذهب والمتعلقات الشخصية , التي وهبنها للمتظاهرين ليقوموا بشراء ما يحتاجونه لتعزيز مواقعهم وصمودهم واعتصامهم وإعادة نصب خيامهم من جديد , حيث كان لهن دوراً فاعلاً ومؤثراً في دعم وإنجاح هذه الانتفاضة , والوقوف مع أبنائهن وإخوانهن في سوح الاعتصام وتقديم المساعدات المختلفة بشتى الآليات والإمكانيات والسبل المتاحة لهن , ومنها إعداد الطعام , ومعالجة الجرحى والمصابين, وتصدر التظاهرات وإطلاق الأهازيج الحماسية , وإثارة النخوة واستنهاض الهممّ .                                                                          

كل هذا أعطى ويعطي حافزاً ومصدراً لاطمئنان الشباب المرابطين في سوح التظاهر, وحتمية انتصارهم والتصميم على تحقيق مطاليبهم المشروعة دستورياً والمسنودة شعبياً , ولم تستطع كل تلك الأساليب وغيرها التي استخدمت ضد هذه الانتفاضة من إيقافها وتراجعها , بل زادتها إصراراًوقوة وعزيمة , إذ استطاعت هذه الانتفاضة من تحقيق أهداف عدة انطلقت من أجلها , منها تشريع قوانين معطلة منذ سنوات داخل مجلس النواب قد تم التصويت عليها تحت وطأة الضغط الشعبي وانتفاضاته الرائدة , وتشريع قوانين جديدة للانتخابات العامة والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات قانوناً وإدارة جديداً , تمهد الطريق لمرحلة سياسية جديدة واعية خالية من الفساد والمحسوبية والمحاصصة والهويات الفرعية الضيقة  , فضلاً عمّا حققته الانتفاضة من الشروع باليات  إقالةرئيس الوزراء , الذي سارع لتقديم استقالته بعد تيقنه من جدية إقالته ومحاسبته , والذي كان كلما يسأل , لا يمتلك شيئا سوى لا نعلم بذلك , وسنحاسب وسنشكل لجاناً تحقيقية لامتصاص غضب الشارع ونقمته جراء المماطلة والتسويف والإهمال !!!                    
وبعد إعلان رئيس الوزراء العاجز لاستقالته , وبعد منازعات وشدُ وجذب بين رئيس الجمهوريةورئاسة مجلس النواب والكتل السياسية , وبعد التي واللتيا تمخضت عن اختيار شخصية جدلية( محمد توفيق علاوي)  الذي اختير في ظل ظروف غامضة , مع انه يمتلك الجنسيتين , فضلاً عن تسنمه لمنصبٍ سيادي سابقاً ( وزير ونائب سابق ) وعليه ملفات وتهم فساد حكم على إثرها بالسجن لسنوات !                        

حيث لاقت هذه الشخصية الرفض من ساحات التظاهرات والاعتصامات ومن ورائها الشارع العراقي الغاضب , لعدم تحقيق هذا التكليف للمطالب الرئيسة المرفوعة أعلاه من قبل المتظاهرين !

ورغم كل هذه الإشكالات والمواقف الرافضة , فقد تم تكليفه من قبل رئيس الجمهورية , وتحديده بالمدة الدستورية لشهر كامل يقدم خلالها كابينته الوزارية والعمل على نيل ثقة مجلس النواب , وما تتطلبه من خوض مشاورات واستشارات سياسية ونيابية , لم تسفر عن التوافق من قبل الكتل السياسية الرئيسة والمؤثرة عددياً , التي عملت على عدم تحقق النصاب القانوني لانعقاد مجلس النواب لمنح الثقة لحكومة رئيس الوزراء المكلف هذه , ولمرتين متتاليتين في اليومين الأخيرين لاستنفاد مدته القانونية , والتي انتهت بفشله في إتمام هذا التكليف وعدم تحقق عرضه على مجلس النواب, ومن ثم انسحابه من الترشح لرئاسة الوزراء, بعد إصرار اغلب الكتل السياسية على العودة إلى المربع الأول وهو ( المحاصصة) , فضلاً عن ضعف الأداء لرئيس الوزراء المكلف وفريقه المفاوض !                                  
ولقد كانت هذه إحدى الأهداف الذي حققتها الانتفاضة برفضها لهذا الاختيار وكونه وجهاً اخراً من أوجه الصراع السياسي وليّ الأذرع فيما بين الكتل السياسية , فضلاً عن انكشاف الوجه الحقيقيلأغلب هذه الكتل التي كانت ولا زالت تحكم العراق وتتحكم به , ممّن يبحثون عن مصالحهم الشخصية وامتيازاتهم السياسية الاقتصادية .                                                                    
ورغم كل هذه الألاعيب والأساليب المشخصة حيناً , والملقاة على طرفٍ ثالث حيناً آخر , فأنها لم تفتّ في عضد شباب الانتفاضة وجماهيرها الداعمة بصورة مباشرة تارة وغير مباشرة تارة اخرى ,واستمرار تقديم قرابين الشهادة التي ناهزت ﺍﻠ (700) شهيد وما يقارب ( 25000) ألف جريح  !                                

ورغم مايتعرض له بلدنا والعالم من مخاطر صحية وبائية , ممّا يفرض علينا التعاضد الوطني لمواجهة هذه الأوبئة الكارثية , إلاّ إننا لم ولن نترك قضيتنا ولا ننسى المطالب الإصلاحية لشعبنا وأبرزها تقاعس المؤسسة السياسية الحاكمة والمسيطرة عن عدم بناء بنى تحتية وخدمية لشعبنا الصابر المبتلى , ومنها عدم وجود بنى إستراتيجية صحية للتعامل مع هذه الأوبئة والمخاطر الصحية , فضلاً عن التعامل مع الحالات الصحية المتوسطة والدنيا , ونرى ضرورة الإسراع بتكليف شخصية وطنية كفوءة على وفق الشروط والمواصفات أعلاه

لمرحلة انتقالية تمهد لانتخابات عامة حرة ونزيهة .

ختاماً … إننا كنا ولازلنا شعباً لايعرف الهزيمة والتراجع , ولا يعرف الانسحاب والتخاذل , شعبٌتربى  على الانتصار وعدم الانحناء ورفض للظلم اياً كان مصدره وطغيانه , لذلك رفضنا وما زلنا نرفض الذل والهوان , ونطمح إلى العيش بحرية وكرامة وامن وآمان .                                                

نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ , إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًىالعنكبوت – 13
نحن شبابُ أحببنا وطننا

فزادنا الله ثباتاً وهدى