18 ديسمبر، 2024 4:02 م

شر الاستعمار لا يغتفر

شر الاستعمار لا يغتفر

ترجمة: د. هاشم نعمة
يعني استعمار جزر الهند الشرقية الهولندية العنف الهيكلي. ولهذا السبب، فإن اعتذار مارك روته (رئيس الوزراء الهولندي الحالي)(1) غير كاف، وفقا لغويناوان محمد(2).
لا أتذكر التاريخ بدقة. ولكن بالعودة إلى الوراء، أدرك أنه لا بد أنه كان في وقت ما في شباط/ فبراير 1948. كان عمري سبع سنوات. في الليلة السابقة، كنت قد سمعت الراشدين يتحدثون عن شيء أطلقوا عليه اسم “هدنة”. والآن أدرك أنهم لا بد أنهم كانوا يتحدثون عن اتفاق رينفيل، الذي كان يهدف إلى وضع حد للصراع المسلح بين مملكة هولندا وجمهورية إندونيسيا.
كان الجانبان يعلمان أن وقف إطلاق النار هذا لا يمكن أن يدوم أبدا. ولكن على الأقل كان الجو سلميا ليوم واحد. على أي حال، لم يكن هناك إطلاق نار في الليلة السابقة. كان هناك شعور عابر بالارتياح. كان الناس مبتهجين، ولكن كان هناك أيضا شعور غريب بعدم الارتياح.
سار الجنود الهولنديون في الشوارع في سيارات جيب مفتوحة وهم يحملون البنادق. في الوقت نفسه، كان سكان مدينتنا يعلقون بالفعل أعلاما حمراء وبيضاء على أبوابهم. حتى أنهم شعروا بالثقة الكافية للالتقاء في مجال مفتوح. ذهبت إلى هناك مع أمي. لم يبد أحد خائفا. في وقت ما، انطلق الناس معا يغنون أغنية “في 17 أغسطس| آب”. كانت تلك أغنية ثورية جديدة، لم يعرفها سوى عدد قليل من الناس. ومع ذلك، رأيت امرأة، صديقة أمي والقادمة من منفاها في ديغول، تغني والدموع في عينيها.

سقوط قتلى

ولكن في النهاية، تبين أن اليوم لم يكن سلميا كما بدا لأول وهلة. عندما عدنا من الاحتفال في الميدان في فترة ما بعد الظهر، سمعنا من مدبرة المنزل سامبيات أن جنودا هولنديين يحملون البنادق جاءوا يقتحمون المنزل. بعد إزالة الأعلام الورقية للجمهورية الجديدة من سياجنا، أجبر جندي سامبيات على ابتلاع اثنين منها. ثم غادروا مرة أخرى.
في المساء، أخبرتني أمي أن الجنود الهولنديين أطلقوا النار على أربعة شبان في حقول الأرز في وقت سابق من بعد ظهر ذلك اليوم. ولم يكن هناك قتال. قالت أمي: “لم يكونوا حتى حزبيين”. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، أخذت كلمة “هدنة” معنى مختلفا تماما في منزلنا.
بعد قرن كامل تقريبا، في عام 2022، أدلى رئيس الوزراء الهولندي مارك روته ببيان نيابة عن حكومته. قال فيه: “عن العنف المنهجي من جانبنا، وهو عنف لم يتم الاعتراف به بالكامل حتى الآن، أقدم اعتذارا عميقا للشعب الإندونيسي نيابة عن الحكومة الهولندية”.
أستطيع أن أفهم لماذا قدم هذا الاعتذار، لكنني لا أعرف ما إذا كان الشخص المناسب لتقديمه. ولد روته في عام 1967، بعد أكثر من عشرين عاما من محاولة هويب فان موك، نائب الحاكم العام لجزر الهند الشرقية الهولندية، خنق قيام الجمهورية الجديدة وممارسة العدوان العسكري ضد السكان. لا أعرف ما إذا كان روته لديه فهم جيد لتاريخ إندونيسيا وتعقيده. وهو ينتمي إلى جيل نشأ بعد سنوات من أمر الكابتن ريموند ويسترلينغ، القائد السيئ السمعة للقوات الخاصة (DST) التي تم نشرها ضد الانتفاضة، بتنفيذ الاعدامات السريعة بمئات الإرهابيين(3) في سولاويزي، والذي حاول القيام بانقلاب عسكري آخر ضد الحكومة الإندونيسية في عام 1950.
أفضل أن لا أرى اعتذار روته على أنه سياسة دون ضمير حي، بل باعتباره عملا سياسيا بالوكالة إذا صح التعبير. إنه ذنب بدون ألم. ففي نهاية المطاف، ليس لحكومته أي دور في هذا الفصل البشع من تاريخ هولندا الاستعماري، ويمكنه أن يقول بحق إن تاريخنا المتشابك، مثل غيره من التواريخ، كان بمثابة مسلخا في استعارة غامضة من هيغل ومن يدري بالضبط أين يقع هذا المسلخ.

عيب أساسي

نحن نصنع التاريخ ونخزن الذكريات الجماعية. لكن التأريخ له عيب أساسي: فهو يتطلب استخدام الكلمات والأسماء. وهو يستند إلى افتراض أن هناك اتفاقا عاما على معنى تلك الكلمات والأسماء: “الهولنديون” و “الإندونيسيون” و العنف”.
يقوم المؤرخون بربطها معا لصنع قصص وإعطاء معنى لقيمة حرية الإنسان. إنهم يريدون أن يصدقوا أن الكلمات التي يستخدمونها ستؤدي إلى توافق في الآراء بشأن معناها. لكن اللغة معقدة.
تعني كلمة “هولندي” شيئا ما فقط إذا قارنته بشيء “غير هولندي” – وهذا لا حدود له. لن تتمكن أبدا من تحديد ما قد تعنيه كلمتا “الهولندي” و”الإندونيسي” بشكل كامل. لا يمكنك تعريف كلمة من خلال البحث عنها في القاموس أو في ويكيبيديا. كل كلمة تبقى دائما صعبة المنال. الهويات والأسماء والتسميات هي دائما عملية متحركة.
لذلك لا أقول شيئا جديدا عندما أقول إن كلمة “هولندي” في الأربعينيات من القرن الماضي كانت تعني شيئا مختلفا عما عليه في عام 2020. إن العلاقة بين الحكومة الحالية في لاهاي وويسترلينغ -الذي حاول بالمناسبة أن يصبح مغني أوبرا بعد تركه الجيش -هي تجريد كامل.
سألني أستاذ في جامعة ليدن(4) كان يعرف أن الحكم الاستعماري قد أرسل والدّي إلى المنفى إلى بابوا في الثلاثينيات وأعدم والدي في عام 1947، سألني ذات مرة: “هل ما زلت تكره الهولنديين؟”
“أنا لا أصدق ذلك”، أجبت مندهشا إلى حد ما.
أجاب: “سألتك لأننا نحن الهولنديين ما زلنا نكره الألمان”.
كان الأستاذ شخصا مهذبا جدا. كان من غير المألوف بالنسبة له أن يستخدم كلمة “كراهية” للإشارة إلى الألمان. ولكن كيف يمكنني الحكم على مدى شدة الألم والإذلال والصدمة التي يعيشها المرء في ظل القمع النازي؟
“تجاربنا مختلفة”، أجبت.
التجارب دائما شخصية ومختلفة. كلها تتشكل من عالم محدود وغير دائم. لا أعتقد أن هناك شيئا اسمه “ذاكرة جماعية” يسجل فيها التاريخ بطريقة صحيحة. هذا ينطبق بشكل خاص على ما يمكن وصفه بأنه “عنف شديد” في الماضي. كلما سمعت أشخاصا يجلسون لتقييم ما حدث في الماضي، أسمع بيتا من شعر شيريل أنور يتردد في رأسي: “نحن – الكلاب التي يتم اصطيادها – لا نرى سوى أجزاء من القطعة التي نلعب فيها”.

لا عشاء

ومع ذلك، عندما يسألني شخص ما عن رأيي في بيان روته، أقول: “نعم، أنا أؤمن بالمغفرة”. على الرغم من طبيعة الاعتذار الهولندي بصفته اختراع مفاهيمي، أتذكر دائما ما فعله مونجينسيدي. قائد حرب العصابات الشاب في ماكاسار الذي سامح الجنود الهولنديين قبل أن يعدموه في 5 سبتمبر/ أيلول 1949.
ولكن ماذا تعني عبارة “العنف الهيكلي المتطرف” في الواقع؟ الثورة ليست حفلة عشاء، كما قال ماو تسي تونغ ذات مرة. إنها تنطوي على الطموح والقتل. ينطبق هذا أيضا على سياسة القمع المعادية للثورة. في التاريخ الحديث للصين والجزائر وإندونيسيا، يمتلك الثوار وأعداؤهم مسالخهم الخاصة بهم. هذا لا يعني أن كل شيء غامض ولا يمكن الحكم عليه.
من الواضح بالنسبة لي ما تعنيه عبارة “العنف الهيكلي”: فهي تشير إلى الاستعمار نفسه. الاستعمار مؤسسة شريرة، مبنية على الغطرسة والجشع، تستند إلى “أيديولوجية” استخدمت لتبرير معاملة الإندونيسيين (والعديد من الشعوب الأخرى في أماكن أخرى) على أنهم أقل من البشر وكعبيد لا ينتمون إلى البشر.
ولا أستطيع أبدا أن أغفر ذلك.

(1) المترجم
(2) غويناوان محمد هو كاتب إندونيسي ومؤسس مشارك لمجلة تيمبو النقدية.
(3) هم ثوار يناضلون من أجل نيل استقلال بلدهم، ولكن ينعتون بالإرهابيين من قبل القوى الاستعمارية. (المترجم)
(4) ليدن، جامعة عريقة في هولندا عمرها خمسة قرون تهتم بالدراسات العربية والإسلامية. (المترجم)
الترجمة عن: 25 Maart 2022 NRC Handelsblad