لا أدري إن كان يصح لي القول بأن قصائد مجموعة ( شريط صامت: نصوص عن السيارات والرصاص والدم/ دار المدى/ بيروت 2011 ) للشاعر عبد الزهرة زكي تنتمي لعائلة السرديات البرقية.. فشخصياً لم أجد مصطلحاً أكثر دقة في تمثيل طبيعة تلك القصائد؛ أنْ تصوِّر حدثاً مهولاً بكلمات قليلة دالّة وموحية، وبتراكيب لغوية تبدو للوهلة الأولى بسيطة غاية في الوضوح، لكنها لا تمثِّل سوى السطح المرئي لنهر عميق.. وقد اخترت مفردة النهر بدل مفردة البحر بسبب صفة الجريان التي تتحلى بها هذه القصائد وهي صفة غالبة في أشكال السرد المختلفة. هذا الجريان لا يتوقف مع انتهاء مفردات القصيدة بل يستمر إلى ما بعد الفراغ من قراءتها. ومعظم القصائد تنطوي على قصص تنفتح في ذهن القارئ على مسارات لا تفصح عنها الجمل الشعرية مباشرة، فبضع كلمات تغدو كافية لتصوير وضع مجتمعي مربك ومشحون بأحداث وتداعيات معقّدة. فالشاعر يلتقط مشاهد عابرة من حياة الناس زمن الاقتتال الأهلي.. إنها ليست أية مشاهد قابلة للنسيان، وإنما تلك التي تترك آثارا غائرة أليمة في الذاكرة والروح.. مشاهد من قبيل الخطف والغدر والقتل المجاني.. ويجسِّدها في صور شعرية مشحونة بمغزى كوني عميق.
نألف عناصر جنس القصة حاضرة وفعّالة في نسيج معظم نصوص المجموعة.. ففي قصيدة ( قرب بوابة الجامعة ) مثالاً، يؤدي العنوان بكلماته الثلاث وظيفة إخبار عن المكان والشخصية، ويفرض حالة من الترقب عند القارئ؛
“سبقها دمها والحقيبة إلى الرصيف/ قبل أن تترك صرختها/ تجري وراءهم/ بين الهواء/ والغبار/ والخوف/ وصوت الرصاص/ الذي ما زال يلعلع في قاعات الدرس../………”.
تكاد هذه القصيدة أن تكون مثالاً بهذا الصدد ويمكن قراءتها بعدِّها جملة واحدة شعرية/ سردية طويلة، تتكون من جمل فرعية، تشكِّل بمجموعها بنية مفتوحة قابلة للتوسع والامتداد إلى ما لا نهاية.. بؤرتها صرخة ستبقى تتصادى في جنبات المعمورة. ومنذ الجملة الفرعية الأولى؛ “سبقها دمها والحقيبة إلى الرصيف” تقبض القصيدة على أنفاسنا وتجعلنا نلهث معها. فالصورة مفزعة تهزّ الوجدان، ولا يحتاج الشاعر ليحكم على فعل الإجرام ويدينه. إن خمس كلمات تعوِّض عن تفاصيل كثيرة. حيث يضعنا السارد/ الشاعر أمام مسؤولية أخلاقية كبرى؛ إلى جانب من علينا أن نقف؛ القاتل أم الضحية؟، وهل علينا أن نكتفي بالفرجة أم أن نصرخ نحن أيضاً بوجه القتلة وأن نفعل شيئاً من أجل سلام العالم؟. إن صرخة الضحية التي تطلقها ساعة الغدر بها لا تجري وراء القتلة وحسب وإنما تهبُّ بوجه الإنسانية كلها. فيما نجد أن صوت الرصاص المجسِّد لبربرية بعض البشر يلعلع في قاعات الدرس الذي هو رمز للعلم والمعرفة. وهذا يوصلنا إلى نقطة التقابل والتضاد بين التوحش المتمثل برصاص الجريمة والدرس الذي هو قيمة ثقافية وحضارية.
تجعلك القصيدة الواحدة بعد أن تفرغ من قراءتها في حالة من التفكير بالنهايات.. وعليك، ها هنا، أنْ تفترض، وأنْ تقترح، وأنْ تتخيل.. وفي هذا كله تراك تحت تأثير مشاعر مختلطة؛ الحزن والشفقة والخوف والغضب من جهة وقد ولّدها الجو النفسي لفضاء القصيدة، والإعجاب بقدرة الشاعر على صياغة حالات إنسانية ذات ثقل تراجيدي كبير بجمل شعرية برقية موجزة تحترم فطنة القارئ وتُخرجه من حالة لا أباليته وكسله وغفوته الأخلاقية، وتوخز ضميره، من جهة ثانية.
إن مشهداً صغيراً واحداً، أو بضعة مشاهد متتالية، يكثف تشعّبات قصة ذات آفاق واسعة.. فعبد الزهرة زكي يعود في تجربته هذه إلى فكرة ( الديوان ) بإحالته حالات تجري في التاريخ الواقعي إلى صور أدبية موثّقة.. وأحسب أنه بمغامرته الإبداعية هذه إنما يثبت للملأ، لاسيما المتشككين منهم، أن القصيدة الحديثة قادرة على التعبير عن محنة الإنسان المعاصر الواقعية منها والوجودية.
إن الفراغات المتروكة في بنية كل نص هي التي تعطيه زخم دلالاته، وتقترح شكله الفني/ الجمالي.. لنقرأ قصيدة انتظار؛
“انتظريني،/ قال لزوجته،/ انتظريني.. سأجيء./.. يفتح السائق باب السيارة/ يرمي الجثة./.. لقد سبقتها الرصاصة إليه.”
ففي خمس عشرة كلمة فقط نتعرف على النهاية المأساوية لفرد، وفجيعة عائلة، وفاصلة كالحة من تاريخ مجتمع. ونقع على مفارقة محيّرة وصادمة تتجسّم بين عبارة ( انتظريني.. سأجيء ) الحميمة والمفعمة بالدفء الإنساني، وبين عبارة ( يرمي الجثة ) القاسية واللاإنسانية والبشعة..
لقصائد ( شريط صامت ) مسحة جمالية خاصة بها.. إنه الجمال المؤسي والموجع الذي يترك القارئ أمام حزمة من الأسئلة الوجودية الكبرى، ففي عالم مهدد بفقدان بعده الإنساني، مركّب من متلازمة القلق والخوف والوحشة والانتظار اليائس يشخص أسئلة الحب والحرية والموت بقوة.
* * *
تطغي على معظم قصائد مجموعة ( شريط صامت ) موضوعة الموت هاجساً مقلقاً وواقعاً درامياً/ تراجيدياً ومصيراً غامضاً.. يتحوّل الموت من حدث بيولوجي وفيزياوي محض إلى قضية وجودية متجسِّدة في رؤى وأحلام وأفكار تشغل بال الشاعر الذي يصبح هنا بحكم الطبيعة السردية لقصائده سارداً له مرويته، يقول في قصيدة ( قبر أعرفه )؛ “في أفق أحلامي/ يتكرر قبر/.. قبر لا أعرفه../ لا أعرف دفينه/.. كل صباح أنهض/ وأجيء بورد/ وبماء الورد../ فأرش القبر/.. أمسح عن شاهدته التراب/ فلا أثر للإسم/.. ويبقى التراب/.. كل ليلة/ يتكرر في أفق أحلامي/ القبر../ فلا أعرفه../.. في ليلة موتي/ في وحشتها/ وصفاء هدأتها/ لا حلم/ لا أفق حلم/ لا قبر/.. الشاهدة ناصعة../ ويد بيضاء تخط حروف الإسم”. فالسارد يرى موته، يحلم به، يستشرف أفقه وحيداً. فساعةَ تُمحى الحدود بين الحلم والواقع، بين الذات وما يحيطها يهدأ العالم وتحل الوحشة، وهي وحشة الوحدة. فأنت تمضي إلى هناك بلا رفقة. وفي تصوّري فإن موضوعة الموت في سياقها الفلسفي، وكما عالجها الشاعر في أكثر من قصيدة، هي الوجه الآخر لموضوعة الوحدة.
في قصيدة ( لا ليل في القبر ) يكرر الشاعر/ السارد الفعل ( انصرفوا ) مراراً بعد أن يعي واقعة موته، فهو حيٌّ بين تراب ميت فوقه وتراب ميت تحته.. “كانوا هنا وانصرفوا/.. انصرفوا/ وقد أخذوا معهم الشمس وضوءها/ أخذوا الهواء بنسيمه وعواصفه../ أخذوا الصباح والنهار والليل”. لقد تركوه مع ذكرياته، وحكاياته، وسنواته؛ “تلك الحكاية توحشني/ وهذه الذكرى تؤلمني/ وتلك سنة لا أحسبها من عمري”. غير أن المفارقة تبرز حين يشتكي السارد الميت/ الحي من حقيقة حاجته إلى أسراره، إلى ما لم يكونوا عرفوه عنه حتى هذه الساعة.. إنه يريد أن يأخذها معه. فبعدما ابتكر على الأرض، في خضم الحياة، تاريخاً وصورة وهوية فإنه يخشى أن تطيح أسراره، إذا ما رُفع الحجاب عنها، بذلك التاريخ وتلك الصورة والهوية. فصورة الذات وهويتها تتجلى بمقدار ما يجري إخفاء كثر من الأشياء التي تخصها، ومواراتها عن الأعين؛ “أحتاج إلى كثير لم يعرفوه/ فلم يأتوا به/ لم يرموه معي في القبر/.. أحتاج إلى أسراري”.
في الجانب الآخر يحدِّثنا الشاعر عن الموت المصنوع، الموت الذي يجري تصميمه وتنفيذه بدم بارد.. الموت المتربص في الشارع وعلى الرصيف وفي المنعطفات، والساحات العامة.. أشكال الموت التي صارت جزءاً من ذاكرة الأحياء وخبرتهم في هذه البلاد. ويقيناً فإن القارئ كي يفهم قصائد من قبيل ( برصاصة قناص، بانفجار عبوة ناسفة، سيطرة وهمية ) يحتاج إلى معرفة أولية بتجربة العراقيين المعاصرة. فلهذه القصائد مرجعياتها الواقعية/ التاريخية حتى وإن اكتسبت بعداً إنسانياً متخطّياً لمواضعات الزمان والمكان.. نقرأ قصيدة ( سيطرة وهمية )؛ “الشارع مغلق../ انعطف بسيارته في الزقاق/.. على حديد البنادق/ تمتزج ملامحهم بضوء الشمس/.. لم يعثر على ما يقوله/.. ضوء الشمس على هدير البنادق/ وعلى عينيه المفتوحتين على وسعهما/ تتسمر ملامحهم”. فالقاتل الذي ينجو غالباً من عقاب القانون يضعه الشاعر موضع الاتهام الأبدي.. إنه مسمّر هناك، في تحديقة الضحية المرعبة، في الصورة الشعرية الفذّة والقاسية التي هي وثيقة إدانة مثبّتة في ذاكرة الإبداع وعلى صفحات التاريخ.
ومثلما نألف في القصص القصيرة جداً يعتمد الشاعر المفارقة في كثر من قصائده ولاسيما عند جملة الإقفال الأخيرة. وهذه المفارقة قد تكون ساخرة، فيها ملمح من كوميديا سوداء تليق بحياة هشة، تسير على حافة العدم؛ “لن يلحق بالسيارة التي أمامه/ السيارة التي في الخلف لم تلحق به/ والثالثة التي اجتازته لن تنفجر/… ثمة متسع للحياة”.
يسلب شبح الموت عافية الحياة.. يغدو كل شيء كئيباً شحيحاً موحشاً مقبضاً للنفس والروح. تنهار القيم وتتقلّب الموازين.. تكون التجربة من الهول بحيث يسقط في امتحانها الكثيرون..
نقرأ قصيدة ( شريط صامت ) التي حملت المجموعة عنوانها؛ “استدار القاتل سريعاً/ عكس السير./.. يدور الشريط صامتاً في المسجّل/ وتمر السيارات بصمت./ فيمر، بصمت، منصرفاً/ عن عابرين يتفادون النظر إليه/.. المسدس بارد بين فخذيه./ وعلى ضباب المرآة شبح يتلاشى/ لقتيل مرميٍّ بعيداً على الرصيف”. أكاد أضع كلمة ( ضمير ) بديلاً عن كلمة ( شريط ) سواء في العنوان، أو في متن القصيدة.. وأتذكر مقولة نسيت إسم قائلها؛ “ضمير الجبان هو ضمير الخوف”.. يعادل الصمت في هذا المقام حدث القتل/ الموت. والضمير الميت للقاتل يقابله ضمير الخوف عند الشهود، أولئك الذين هم ضحايا في حالة انتظار.