21 ديسمبر، 2024 1:06 ص

شروط الانعطاف المعرفي من الحس المشترك إلى الفهم السليم

شروط الانعطاف المعرفي من الحس المشترك إلى الفهم السليم

” النقد يعطي لأحكامنا مقياسا يسمح لنا بالتمييز الصحيح بين العلم والتظاهر بالعلم ”

– كانط-

توطئة:

إذا كانت الميتافيزيقا قد مارست الإقصاء على الحس المشترك وأدرجته ضمن دائرة المحسوس والخيال وحكمت عليه من زاوية المعيار المنطقي والحكم العقلي واستندت إلى أولوية الروح على البدن وأفضلية الرمزي على المادي والمعقول على الحسي فإن الفلسفة النقدية المعاصرة قد أعادت له الاعتبار ورفعت عنه الضيم وصارت تعول عليه في العديد من المجالات وتعتمده كأداة للمعرفة والتواصل وقوة اجتماعية.

فما المقصود بالحس المشترك؟ ماهي المبررات التي جعلت الفلسفة الميتافيزيقية تحتمي بها لكي تقوم بتهميشه؟ ولماذا عادت إليه الفلسفة النقدية بقوة؟ وما الفرق بين الحس المشترك والعقل؟ وهل يمكن أن يمثل الحس المشترك دورا مركزيا في نظرية المعرفة وفي مجال التجربة العملية والتشريع الأخلاقي؟

لا يمنع الإقرار بمركزية الحس المشترك ضمن التناول الفلسفي من تعقيد المسألة وصعوبة الظاهرة ولا تمنع القراءات المتضاربة التي ظهرت حولها وتردد التأويلات التي مورست عليها دون جدتها وتأصلها.

لقد وفر لنا التراث الفلسفي حول الحس المشترك مسارين من التفكير في المبحث مع إمكانية التقاطع بينها:

– لقد صاغ أرسطو للمرء الأولى مفهومkoine aisthesis أثناء التفكير في مسألة الإدراك (الحس المشترك) وظل حاضرا في قلب الإشكاليات الفلسفية التي تطرح ضمن نظرية المعرفة إلى حد القرن 18 ميلادي.

– المسار الثاني من التفكير هو الذي جعل من الحس المشترك في اللاتينية sensus communis وفي الفرنسية sens commun متماثلا مع مصطلح الفاهمة المشتركة والرأي العام l’opinion..

ما نلاحظه في هذا المعجم اللغوي هو بقاء مصطلح sensus communis وراء التبسيط الظاهري للمعاني المتداولة حس مشترك وشعور عام وعقلانية مشترك ورأي ولكن الفلسفة المعاصرة أزالت عنه الغموض وفكت عنه الغرابة وأوضحته بالصورة الكافية.

بهذا المعنى يظهر للعيان رهانا نظري وعملي من تقاطع المسارين ويمكن إثارة الإشكال التالي: هل يتنزل موضوع الحس المشترك ضمن دائرة الإدراك والمعرفة أم ضمن العلاقة المتشابكة بين الفلسفة والرأي؟

لذا يمكن رسم خطوط التفكير في هذا المشكل بافتراض معنى أول عن الحس المشترك يفضي إلى معنى ثان للحس السليم يُشتَقُّ من الأول ولكنه يتماشى مع التطوير الذي يخضع لها التفكير الفلسفي عبر التاريخ.

من هذا المنظور لقد أدت عملية خلق أشكال من الحس المشترك إلى إعطاء عناية خاصة بتحولات المعنى التي حدثت للحس المشترك من مجرد سبيل مشترك للمعرفة إلى أمكنة عامة تسهر على تكوين الخطاب.

لكن ماهي الأبعاد التي يتوزع إليها الحس المشترك في تاريخ الفلسفة من جهة نافل القول وبادئ الرأي؟

1-مفهوم الحس المشترك:

لغة: وحدة المعرفة الحسية والرأي المشترك sens commun

اصطلاحا: الفطرة السليمة nature bonne

دلالة فلسفية: الرأي السديد والحكم الصائ والذوق الحسن والروح الطيبة والقلب المبصر Raison –sagesse – bon gout- jugement ,bon esprit,bon coeur، tact

تشكل الحواس بالنسبة للأجسام الحيوانية مكونات الأجهزة الذي تسمح لها بمعالجة خصوصية للمعلومات التي تتأتى لها من العالم الخارجي. لقد اعتاد الناس على التمييز بين خمسة حواس بالانطلاق من عدد الأعضاء اللاقطة (النظر والسمع والذوق والشم) باستثناء حاسة اللمس التي تتطلب تفاعلا مع الأشياء.

لقد ظلت نظرية الحواس من ميلادها متأصلة في العلاقة التي تتبلور وفق كيفيات متنوعة عن العالم، ولكن الناس تتكلم اليوم عن نظرية الإدراك وتطرح مسائل بالغة التعقيد وفق نماذج يوفرها الذكاء الاصطناعي.

تمتلك الحواس بصورة طبيعية سمة تقبلية وقد أتاحت هذه الخاصية للفلاسفة بأن يمنح عدة وظائف أخرى للملكات الحسية ويميزوا بين الحس الحميمي عند جون لوك والحس الباطني عند عمونيال كانط للإشارة إلى التفكير أو الوعي بالذات من طرف الذات ، والحس الأخلاقي عند hutcheson الذي يدل على ملكة التمييز بين الخير والشر بصورة حدسية. من جهة أحرة تفضي الحواس إلى عملية الشعور باللذة والألم ، وتسمح بإمكانية البناء عبر الترميز في ميدان الفن حيث يحد الغياب من وظائف الذوق واللمس والشم.

لقد سبق لأرسطو أن كشف عن الشكل المعقد للحياة الذي تترجمه الملكات الحسية وخاصة إقراره بوجود نفس حسية إلى جانب النفس الناطقة و بعد ذلك تم التضحية بالطبيعة المادية للحواس دون أن يقع المساس بحساسية المادية الجامدة بل إن ديدرو اعتبرها ملكة أساسية تتكون منها بصورة جوهرية ظواهر الكون.

لقد تلاقى على تفسير الحساسية منذ ولادتها في شكلها الأكثر رهافة كل من الفيزيولوجيا في القرن 18 وعلوم الحياة ولقد حاولت الفلسفة الكانطية تجاوز الثنائية المعرفية باختزال المجال الحسي إلى القابلية المحضة وأوقف الذم الأفلاطوني للمحسوس ووضع حدا للتبخيس الأخلاقوي للجسد من طرف اللاهوت المسيحي الذي حمل الحواس مسؤولية الضعف البشري وجعلها تحكم من منطلق قيمي على الكائن الحسي.

ماهي دلالة الحس السليم من حيث هو نمط من الحس المشترك؟ وكيف يرتبط بالمعقولية والحكمة؟

الحس السليمBons sens هو الفطرة الحسنة التي تشير إلى ملكة البداهة لدى الكائن البشري تخول له الحكم على المعارف والأشياء والأشخاص بصورة صحيحة دون أن يقوم باستدعاء التفكير المركب ودون الاستعانة بالمعارف الدقيقة. بهذا المعنى يفيد الصواب في الحكم بصورة فطرية وسداد الرأي دون توسط المعرفة. كما يتعارض الحس السليم من حيث هو حكم الرأي السديد مع الظن ومع الحكم المسبق وتغيب عنه بالعادة كل المعاني السلبية ويشكل عند ديكارت ” القدرة على الحكم الحسن وعلى تمييز الصواب من الغلط”ويمثل ميزة الإنسان وعلامة العاقلية والحكمة والتبصر والفاهمة والتفكير الجيد بوصفه أعدل توزيعا بين الناس1[1]. من هذا المنطلق لا تطلب معرفة حقائق العلوم حينئذ سوى قيادة منهجية لهذه القدرة على الحكم وتعارض المعرفة المتأتية عن طريق التقليد. ولكن ديكارت يميز بين العقل الذي يستعمل المفاهيم المحددة ويشتغل وفق تمشي صارم يسمح له ببلوغ الموضوعية والكلية والحس السليم الذي يستهدف موضوعه بطريقة مباشرة وبصورة حدسية ويمكن أن يحصل على تصديق عدد كبير من الناس في الميادين التي يتعذر على فن المنطق توفير نتائج يقينية. بهذا المعنى يشمل الحس السليم مجال أحكام القيمة وبالخصوص الأخلاق والآداب ومبادئ الحياة العامة. لكن كيف يلعب الحس المشترك دورا مركزيا في الحياة الإنسانية. فماهي الوظيفة التي يمكن أن يؤديها الحس المشترك في الحياة الانسانية؟

2-قيمة الحس المشترك:

إذا كان الحس المشترك قد وقع التعامل على أنه شيء تافه ومبتذل وتم احتقاره ونظرت إليه الميتافيزيقا نظرة سلبية ، فإن الفلسفة النقدية قد غيرت الموقف النظري وتعاملت معه من معيار مختلف ومنحته تثمينا معرفيا وقيمة اعتبارية حينما جعلته قادرا على حل التعارض بين الكوني والجزئي وبين الكلي والفردي. فماهي الأدوار الجديدة التي يمكن أن يؤديها الحس المشترك بماهو حس سليم على صعيد النظر والعمل؟

“إن الفاهمة المشتركة ، إذا ما اعتبرت من جهة كونها فاهمة سليمة ( لم تتثقف بعد )، أي بماهي أقل الصفات التي يحق لنا أن ننتظرها دائما من أي كان يستحق اسم الكائن البشري، تشعر بخدش في كبريائها عندما ينسب إليها اسم الحس المشترك sensus communis ، حيث لا نعني بصفة المشترك شيئا آخر غير ماهو متداول، أي ما نعثر عليه في أي مكان وما لا يجلب امتلاكه أي جدارة أو امتياز. والحال أن ما يجب فهمه من عبارة الحس المشترك هو فكرة حس مشترك لدى الجميع أي فكرة ملكة الحكم التي تأخذ بعين الاعتبار نمط تمثل كل الكائنات البشرية الأخرى عندما تفكر قبليا وذلك لكي تجعل أحكامها، إن جاز لنا القول، معاضدة للعقل البشري في كليته. وهكذا نفلت من الوهم الذي يتولد عن ظروف ذاتية من قبيل ماهو شخصي فيمارس تأثيرا ضارا على الحكم.” (عمونيال كانط، نقد ملكة الذوق (الحكم)، الفقرة 40)2[2]

والحق أن الحس السليم هو القدرة على تمييز ماهو بديهي بوضوح تام دون الأخذ بالاعتبارات الأخرى، وقد يفيد جودة الروية والحكم السديد والصواب والشفافية والوضوح والصفاء والإشراق ويتشكل فطريا.

لكن ثمة فجوة قائمة بين النظر الذي يمتد فيه المعنى اللغوي والفكري والعملي الذي يوجب على المرء المرور إلى الممارسة والتقيد بالتطبيق دون أن يكون ضامنا القدرة على الفعل وفق المعرفة بالسبب.

لذا يحتل الحس السليم المكان الوسط بين الجهل والمعرفة المضمونة بصورة جيدة ويردم هذه الفجوة القئمة بين النظر العقلي والممارسة العملية ويشير إلى الرأي المستقيم3[3] والى العلة التي لا تحتاج إلى تعليل.

من جهة ثانية لقد عرف منجد “روبار الصغير” الحس المشترك على أنه الذكاء والنور الفطري الذي يوجد عند جميع الناس بالولادة، في حين أن الحس السليم هو العقل الذي يسد الفراغ الذي يتركه العلم وهو كذلك القدرة على الحكم بصورة جيدة ودون انفعال مع قدرة على التأثير في المشاكل التي عجزت الاستدلالات العلمية على حلها في الوقت الحاضر. بهذا المعنى يمثل الحس السليم واحدا من الشروط الأساسية التي تسهر على ضمان حرية التفكير وذلك عندما يسمح للناس بإبداء الرأي واتخاذ موقف حول دواعي الفعل ويتم الاستنجاد به في الوضعيات القصوى وهو ملكة يتصف بها العبقري الموهوب من جهة الخاصية والقانون بغية اختيار الرأي الأنسب الذي يمكن السير به أثناء الفعل.

لو أضاع الناس في مجتمع معين حسهم السليم وتعودوا على هذا الضياع فإن الضار يثير الخوف فيهم ويؤدي هذا الإضرار بأن تفقد الإنسانية بأسرها رأيها تحت تأثير هيمنة الإعلام والدعاية والإشهار. وتضيع بالتالي فكرة ديكارت الشهيرة القائلة بأن الحس السليم هو أكثر الأشياء قسمة وتوزيعا بين الناس.

في حين أن كانط اعتبر الفاهمة المشتركة هي ما يؤمّن انسجام الحكم المعرفي لدى الشخص مع الأحكام الصادرة عن مجموع الكائنات العاقلة التي يتواصل معها وعدّها متعاضدة تماما مع العقل في كليته.

إذا كان الحس المشترك يشير إلى الكيفية التي تلتقي بها مجموع الحواس لإدراك شيء ما والى الوعي بالإحساس أي الكيفية التي نحس بها أننا نحس فإن الفاهمة المشتركة أو الذهن هي الملكة التي تؤلف معطيات الحساسية ضمن وحدة عامة يسميها كانط المقولة ويعتبرها مشتركة وشاملة وقبلية وموزعة بين جميع الناس. ومن المعلوم أن العنصر القبلي عند كان هو القضية التي تكون معرفة صدقها أو كذبها مستقلة عن التجربة وراجعة للذهن أما العنصر البعدي فهو القضية التي تكون معرفتها مرتبطة بالتجربة.
في هذا السياق يقيم كانط علاقة وطيدة بين الفاهمة المشتركة والحس المشترك على الرغم من اعتباره صفة المشترك تضفي دلالة سلبية على مفهومي الحس والذهن ويخضعها للمراجعة النقدية بغية تخليص العبارة من دلالتها السلبية وربطها بالعقل والسماح للفاهمة المشتركة من التمكن من تجاوز الوهم.

” الحس المشترك هو الملكة المعرفة القادرة على استخدام القواعد استخداما عينيا في مقابل الذهن النظري وهو الملكة القادرة على معرفة القواعد معرفة نظرية”4[4]

– الحس المشترك لا يدرك إلا القاعدة التي تنصص على أن كل ما يحدث يتعين بعلته ولكنه لا يفهم هذه القاعدة بصورتها العامة.

– يطالب الحس المشترك بمثال من التجربة اليومية ولا يمكن الاستعانة بالحس المشترك الا كلما أمكنه وجود تأييد لقواعده من التجربة.

– العلامة السيئة هي اعتماد العقل الفلسفي على ضمان الحس المشترك الذي لا يحق له الحكم في هذا المجال وجرت العادة التعامل معه باحتقار وازدراء.

– أصدقاء الحس المشترك غير الحقيقيين هم الذين يجدونه في وقت الحاجة ويحتقرونه في العادة

– الأشنع أن نعتمد على الحس المشترك فيما يتعلق بالتصورات والمبادئ من حيث صحتها خارج شروط التجربة

– لا نستطيع في الميتافيزيقا اي في العلم النظري للعقل المجرد ان نعتمد على الحس المشترك إلا إذا أرغمتنا الظروف على ترك هذه المعرفة.

– العقل السليم هو الحس المشترك بوصفه قادر على الحكم السليم.5[5] لكن كيف يتحول الحس المشترك إلى تجربة تعقلية تقوم على إصابة الحدس الأوسط وقوة التمييز وبراعة ولباقة وكياسة تساعد المرء على التواصل مع غيره والمصالحة مع الذات وإضفاء المعنى على العالم؟
3–مستويات الحس المشترك:

يرتبط الحس المشترك بصورة من المعرفة المجمعة لكل المعارف التي قامت الثقافة المعيارية باستبعادها واحتقارها وتتشكل هذه المعرفة المشتركة في أنظمة مترابطة وأنساق رمزية ، ولهذا السبب لم يظل مفهوم الحس المشترك حبيس النظريات الفلسفية والمنطقية وإنما هاجر إلى عوالم الأنثربولوجيا والسوسيولوجيا والسياسة والألسنية والايديولوجيا6[6].

من هذا المنطلق صار الحس المشترك يتكون من معارف تقوم بتنظيم الحياة الاجتماعية ولكن بطريقة جزئية وليس بالضرورة بصورة كونية. لهذا يمكن للحس المشترك أن يخضع لقواعد الصلاحية التي تفرضها العلوم ، ولكن من وجهة نظر براغماتية، ويمكن أن يتحول الحس المشترك إلى استدلال تاريخي يسمح بإيجاد أجوبة للمشاكل المطروحة وبإعطاء المعنى للقضايا التي تعترض الأفراد في حياتهم اليومية.

تبعا لذلك يكون الحس المشترك طبيعيا وفطريا وبديهيا ولا يعتقد المرء أنه يمكنه التفكير والفعل بطريقة مغايرة له. لقد طالب الفكر الفرنسي الحر آلان في كتابه حول السعادة بأن “يتأقلم الحس المشترك كل واحد مع الشروط الواقعية للحياة في المجتمع”. لهذا ظهر مفهوم الحس المشترك الجماعي واستوطن بصورة لافتة في العديد من الحقول المكتشفة في الحقبة المعاصرة:

– لقد أصبح الحس المشترك مع ديكارت وكل مؤسسي فلسفة الأنوار حسا سليما وأخلاقا طيبة ومنطقا كونيا ومعرفة متجذرة في الأشياء عينها يمتلكها كل مجتمع بشكل فطري وتكويني.

– لقد شيد جون لوك دعائم فلسفة تجريبية مرتكزة على الحس المشترك للكائن البشري وتواصلت هذه النزعة الحسية النفعية مع جورج مور وريد الذين دافع عن مدرسة الحس المشترك .

– لقد عرفت الأنثربولوجيا مع كليفورد غيتز الحس المشترك بكونه النسق الثقافي الذي يمكن أن يتغير بصورة جذرية من شعب إلى آخر ويخترق الطابع الكلي الذي يميز المفاهيم وينقد التمركز.

لقد كشف غيتز في كتابه “أبحاث عن العالم العادي” عن المشكل الذي تلاقيه العقلانية حينما تريد فهم العالم الاجتماعي بالنظر الى ما يتضمنه من تناقضات واستعارات ومشاكل ولذلك تعجز الدراسات السوسيولوجية عن التمييز الكافي بين عقلانية الملاحظ والمحيط الثقافي للفاعل البشري. في هذا الصدد يستخدم ألفرد شولتز الحس المشترك كطريقة استعمال يسمح للمعرفة بأن تتصرف في نسق ثقافي بصورة رمزية بالاتفاق مع مقتضيات السلوك الجماعي المنظم.

– لقد قدم هنري برجسون في كتابه الضحك تعريفا رائعا لمفهوم الحس السليم7[7] أين اعتبره معرفة تذكرية وقدرة على النسيان بقوله: “انه الجهد الذي تبذله الروح في التعود والتعود باستمرار وتغييرها للأفكار بتغيرها للأشياء. انه حركية الذهن الذي ينتظم بصورة مطابقة لحركية الأشياء. انه استمرار الانتباه إلى الحياة بصورة متحركة”.

– لقد دعا غرامشي في كتابه رسائل من السجن أهل الفكر إلى الانطلاق من نقد الحس العام وإجراء تحليل للفلكلور وفلسفة اللاّفلسفة والدين الشعبي التي توافق الوضع الثقافي والاجتماعي للجمهور وتتكون من تصورات وثوقية للعالم تظل على حال وحيدة عبر الزمان والمكان بحثا عن النواة الحسنة التي توجد على صورة الفطرة السليمة في الحس العام وقامت المجموعات بطمسها. فالحس العام يحتوي على تصور متقطع ولامتماسك وغير منطقي ويشير إلى مفهوم ملتبس ومتناقض ومحافظ وذميم يعادي الأشياء الجديدة ولكن هذا لا يعني انه ليس من حقيقة في الحس العام بل يمكن لأهل الفكر من إنفاذ حقيقة جديدة فيه وذلك بتأسيس حس عام جديد في إطار ثقافة جديدة وفلسفة جدية تتأصلان في وجدان الشعب بقوة المعتقدات الشعبية الجديدة وما فيها من طابع إلزامي وأمري بالبرهنة على ضرورة تجديد المعتقدات الشعبية لما تتمتع به الحقيقة من قوة جميلة وبداهة وجاذبية تساعدها على الانتشار والإقناع.

لقد طرح أنطونيو غرامشي في نفس السياق النقدي السؤال التالي: على أي شيء تقوم بالضبط ما يمسى عموما الحس العام أو الفطرة السليمة؟ لقد كان جوابه أن الحس العام لا يتضمن مبدأ السببية فحسب بل يحسن استخدامها في واقع ضيق وإذا عرضت عليه مجموعة من الأحكام المعرفية حول جملة من الأشياء والأحداث والأشخاص فإنه لا ينحرف عن الصواب بتأثير الميتافيزيقا ولا يقع ضحية مزاعمها في عمق النظر ودقة العلم بل يدخل في مقاومة مبدأ السلطة ويصدر حكما تقويميا ويعرف السبب الحقيقي البسيط والسهل بالنزوع إلى التجريب والملاحظة المباشرة للواقع ويراعي تبدل الموقف واختلاف القيمة8[8].

– بعد ذلك قامت حنة أرندت في كتابها “شرط الإنسان الحديث” بالتنبيه من أزمة الحداثة التي أدت بالغرب إلى الوقوع في العدمية بسبب فقدان الحس المشترك وبحث بشكل ايتيقي عن إمكانية تحوله إلى حس سليم وفسرت ذلك التحول من خلال اعتماد الفلسفة الذاتية على منهج الاستبطان وحرصت على الكف عن منح الحس المشترك التقاعد المبكر في المنظومة العقلانية9[9].

4- وظائف الحس المشترك:

من المفارقة أن يقوم ايميل دوركايهم باختزال الحس المشرك في نوع من المعرفة أقل بكثير من نوع المعرفة العلمية وذلك بأن جسد القطيعة الجذرية معه التي تلتزم بصرامة المنهج العلمي وجمعه مع الأشكال القبلية للمعاني المتداولة ، في حين أن بيير بورديو اعتبره أول الشروط العلمية المناسبة في سبيل بناء معرفة سوسيولوجية. هكذا يقوم الحس المشترك بوظيفة إدماجية داخل المعرفة والقيمة والوجود لكل من الظن أو الرأي والإدراك والثقافة الشعبية والمعتقدات ويصل الفردي بالاجتماعي وينفرد بمعاملة النزعة الحسية بوصفها المضمون الأساسي الذي تتكون منه المعرفة العقلية.

على هذا النحو يمكن توزيع وظائف الحس المشترك في النقاط التالية:

-يمكن الاعتماد على الحس المشترك في تمييز المعارف الاجتماعية عن المعارف التي يكونها الناس عن الحياة الاجتماعية ومكوناتها ويساعد هذا التمييز العمل السوسيولوجي في بناء حس مشترك كبير.

-يساعد الحس المشترك في عملية تجميع المعرفة غير العلمية ويسهل عملية معامتها بواصفها معارف علمية وخاصة الثقافية العامة التي يتم إرسالها من طرف الأفراد والمجموعات من جيل إلى آخر.

-يساعد الحس المشترك على تشييد تفاعل بين الأفراد في وسط سكني بواسطة مجموعة من القواعد والشفرات والمعارف المقبولة بينهم والتي تسمح لهم بالاستمرار والبقاء والمحافظة على تعاونهم.

– يقود الحس المشترك إلى إزالة سوء الفهم حول مقصد الخطاب الذي يتم تقاسمه بين المتحاورين وذلك بتفادي ضغوطات الحجاج وشكلانية البرهنة والاعتماد على البلاغة من أجل الفهم المشترك والإقناع العمومي.

-يتناسب الحس المشترك مع الدين الشعبي والمعتقدات الموروثة والكفاءة المتناقلة عبر الأجيال في التعامل مع المقدس عبادة وطقوس وأحكام تفصلية بشأن الحياة والواقع وتصورات للطبيعة ومابعدها ورؤية للعالم.

-يشكل الحس المشترك الجذور والينابيع التي تشكل منها القول الفلسفي منذ البواكير الأولى ويستمد منه مبادئه وقوة نموه واتجاه سيره ويظل يتغذى طوال تاريخه التقدمي. فماهي الرهانات المرجوة من تحويل الحس المشترك الى حس سليم في الفترة المعاصرة؟ ألا يعني ذلك تجديد العقلانية بالعودة الى هوامشها؟

خاتمة:

يجب الانتقال من الحس المشترك إلى الحس السليم وذلك بالعمل على نمذجة الأشياء وفق معيار الأفكار الواضحة والمتميزة وليس العكس أي نمذجة الأفكار وفق معيار الأشياء الحقيقية والفعلية (الوقائع المادية) ، ويتمثل الحس المشترك على هذا الأساس في النظر فيما نفكر فيه وليس التفكير فيما ننظر إليه. إن الحس السليم الذي يتعلق بالمعرفة المشتركة يقوم بتوجيه النداء إلى العقل من أجل استرجاع الوضعية الراهنة من أجل واستحضار الواقع الاجتماعي. بهذا المعنى يتسنى للفلسفة أن تقوم بتجميع قواعد الحس المشترك من أجل توجيه الحياة اليومية وتضعها على ذمة الإنسان لكي يتبعها في طريق تحصيله للنجاح والسعادة والعاقبة الحسنة وتحقيق أهدافه المرجوة. فأنى يكون الحس المشترك فلسفة العالم المعاصر؟

الإحالات والهوامش:

[1] Descartes René, Discours de la méthode, I, La Haye, 1637, « Le bon sens est la chose du monde la mieux partagée : car chacun pense en être si bien pourvu, que ceux même qui sont les plus difficiles à contenter en toute autre chose, n’ont point coutume d’en désirer plus qu’ils en ont. En quoi il n’est pas vraisemblable que tous se trompent ; mais plutôt cela témoigne que la puissance de bien juger, et distinguer le vrai d’avec le faux, qui est proprement ce qu’on nomme le bon sens ou la raison, est naturellement égale en tous les hommes ; et ainsi que la diversité de nos opinions ne vient pas de ce que les uns sont plus raisonnables que les autres, mais seulement de ce que nous conduisons nos pensées par diverses voies, et ne considérons pas les mêmes choses. Car ce n’est pas assez d’avoir l’esprit bon, mais le principal est de l’appliquer bien. Les plus grandes âmes sont capables des plus grands vices, aussi bien que des plus grandes vertus ; et ceux qui ne marchent que fort lentement peuvent avancer beaucoup d’avantage, s’ils suivent toujours le droit chemin, que ne font ceux qui courent, et qui s’en éloignent ».

[2] Kant (Emmanuel), Critique de la faculté de juger, édition G. Flammarion, Paris, 2000,§40, pp278-279.

[3]Dictionnaire le Littré : http://www.littre.org/,

[4] كانط (عمانويل) ،مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، ترجمة نازلي إسماعيل حسين، دار الكتاب العربي ، القاهرة، طبعة ، 1968.ص215-216

[5] كانط (عمانويل) ،مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، المرجع مذكور، ص217

[6] Pour Destutt de Tracy la diversité de nos dispositions individuelles n’empêche pas que la vérité soit la même pour tous et qu’il y ait une raison générale et un sens commun et universel. Nous sommes toujours d’accord quand nous ne mettons dans une idée que « ce qui est »

[7] Bergson dans son livre Le Rire dit : « Le bon sens consiste à savoir se souvenir, je le veux bien, mais encore et surtout à savoir oublier. Le bon sens est l’effort d’un esprit qui s’adapte et se réadapte sans cesse, changeant d’idée quand il change d’objet. C’est une mobilité de l’intelligence qui se règle exactement sur la mobilité des choses. C’est la continuité mouvante de notre attention à la vie »

[8] Gramsci dans le texte, traduction de l’italien par François Ricci, Jean Bramant, Armand Monjo, Gilbert Moget, éditions sociales, Paris, 1975. p171.

[9] Arendt Hannah, condition de l’homme moderne, préface de Paul Ricœur, traduit de l’anglais par Georges fradier, edition Calmann-lévy, , imprimé en France, 1961-1983 , pp315.

كاتب فلسفي

[1] Descartes René, Discours de la méthode, I, La Haye, 1637.

[2] Kant (Emmanuel), Critique de la faculté de juger, édition G. Flammarion, Paris, 2000,§40, pp278-279.

[3]Dictionnaire le Littré : http://www.littre.org/,

[4] كانط (عمانويل) ،مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، ترجمة نازلي إسماعيل حسين، دار الكتاب العربي ، القاهرة، طبعة ، 1968.ص215-216

[5] كانط (عمانويل) ،مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما، المرجع مذكور، ص217

[6] Pour Destutt de Tracy la diversité de nos dispositions individuelles n’empêche pas que la vérité soit la même pour tous et qu’il y ait une raison générale et un sens commun et universel. Nous sommes toujours d’accord quand nous ne mettons dans une idée que « ce qui est »

[7] Bergson dans son livre Le Rire dit : « Le bon sens consiste à savoir se souvenir, je le veux bien, mais encore et surtout à savoir oublier. Le bon sens est l’effort d’un esprit qui s’adapte et se réadapte sans cesse, changeant d’idée quand il change d’objet. C’est une mobilité de l’intelligence qui se règle exactement sur la mobilité des choses. C’est la continuité mouvante de notre attention à la vie »

[8] Gramsci dans le texte, traduction de l’italien par François Ricci, Jean Bramant, Armand Monjo, Gilbert Moget, éditions sociales, Paris, 1975. p171.

[9] Arendt Hannah, condition de l’homme moderne, préface de Paul Ricœur, traduit de l’anglais par Georges fradier, edition Calmann-lévy, , imprimé en France, 1961-1983 , pp315.