هذه الدائرة التي تسببت بهروب الكثيرين من الشباب إلى خارج العراق. كانت دائرة تجنيد كركوك دائرة صعبة للغاية وصعوبتها لا تكمن في كونها تسوق الشباب إلى الموت في جبهات القتال فحسب، بل كان منظر الزحام الذي في باب التجنيد للوصول إلى شباك صغير حقير يدفع بالمرء إلى أن يفر من أمه وأبيه تاركاً أرضه وترابه والجمل بما حمل، ليلاقي مصيره في أي بلد آخر ليس فيه كمثل هذا الشباك القاتل بحثاً عن العيش بالكرامة.
الدخول إلى هذه الدائرة ليس بالأمر السهل رغم أنك جئت إليها طالباً الالتحاق بالعسكرية ومواجهة الموت. رغم أنك تأتي إلى شباك كهذا من أجل لا شيء، وكثيرون هم الذين تم سوقهم من هذه الدائرة ولم يرجعوا إلى أهاليهم مرة أخرى فإما قتلوا أو فقدوا في سحات المعارك أو تم أسرهم. من الصعب جداً أن تكون جندياً لخدمة نظام لا تؤمن به وأن تفديه بروحك وهذا النظام لا يقيم لك مثقال ذرة من الوزن والاعتبار والاحترام. أمّا اذا لم تلتحق إلى هذا الشباك فإنك وأهلك ستلاقون مصيراً مجهولاً لا يعرفه إلاّ الله والراسخون في العلم.
ملخص الكلام.. الذي كان يعرف جندياً يعمل داخل التجنيد كان من الذين قد من الله عليه بالفضل الكثير. الكل سيقترب منه لقضاء حاجته في هذه الدائرة اللعينة. الذي له من يعرفه في دائرة التجنيد يعادل من يشغل اليوم منصب مدير عام في أية دائرة حكومية. الكل يحاول التقرب منه وتقديم الولاء له عسى أن ينفعه في يوم لا ينفع فيه مال ولا ولد.
بعد عام 2003 وزوال النظام فإن أول ما قام به المواطنون في مدينة كركوك هو هدم بناية تجنيد كركوك وتسويتها مع الأرض لما عانوه من ويلات وما تذكرهم به هذه الدائرة اللعينة من مأسي وإذلال للنفس البشرية واحتقار للإنسانية.
طويت صفحة الهوان واليأس والذل، حتى نفاجأ بتحول كل الدوائر المدنية في العراق إلى دائرة تجنيد. هدمنا مبنى دائرة التجنيد كي تصدم اليوم بالف دائرة تجنيد. اليوم عندما أراجع أية دائرة في مدينتي يراودني نفس الإحساس الذي كنت أحس به وأنا استقــتل للوصول إلى شباك دائرة التجنيد في الأمس. كل الدوائر الحكومية اليوم قد تحولت إلى دوائر تجنيد وعليك أن تجد فيها من يسعفك عند حاجتك إليها.
حتى المصارف التي تضع فيها رصيدك فليس من السهل أن تسحب منها أموالك التي هي عائدة إليك وقد وضعتها بنفسك. المستشفيات التي تراجعها أو دائرة صندوق الإسكان في مدينة كركوك والتي تذهب إليها لتسديد الأقساط. دائرة البلدية ودائرة المحافظة والتقاعد والتربية وكلها بدون استثناء تتطلب أن تتعرف فيها على احدهم لتحصل على حق من حقوقك المتواضعة عند المراجعة وتتسلق إلى الشباك. والا فاقرأ على نفسك وعلى معاملتك السلام. أما دائرة الجنسية والجوازات ودائرة المرور فلا يمكن أن أعلق عليها، فكل كلمات الدنيا لا تعبر عن مآسيها إطلاقا فالله وحده يعلم بالأمر.
يا ترى كم بناية ستكون مصيرها كمصير بناية التجنيد التي سويت بالأرض بغضب الجماهير؟