منذ انطلاق التظاهرات في الثالث من اكتوبر الجاري، ولم اجرأ على كتابة مقالة، ولم أحاول ان أعبر عن رائي لسبب بسيط، وهو تعالي الأصوات وكثرة الآراء بين الرافضة والموالية لما يجري، فريق يكيل للحكومة أنواع التهم، وفريق اخر ينعت المتظاهرين بالمندسين والمخربين والبعثية، وما بين هؤلاء وأولئك تشوشت الرؤية واختلط المشهد، وضاع صوت العقل وسط هذه الجّلبة٠
وفي ظل هذا التجاذب برز اتجاهان يقود المشهد الاول؛ هو التشاؤمي يرى الأمور تتجه نحو الفوضى وأشاعة اللانظام بل وتروج لرموز ترسخ هذا المفهوم، كما انتشر على مواقع التواصل “رمز الجوكر ” وتبني تجار الأزمات وقادة الجيوش الإلكترونية المسيسة هذا الشعار، وسرعان ما تم تغييره عندما جوبه برفض واستنكار من عامة الجمهور الإلكتروني، الذي مَل من تزاحم الألاعيب على عقله، فما عادت تلك البرومكندا تنطلي عليه هذه٠
أما الاتجاه الثاني وهو الأكثر تفائلاً وهو مايؤيده ويرغب به العقلاء، وهو التأكيد على أحقية ومشروعية التظاهر، مع الحفاظ على سلميتها والجنوح إلى التهدئة ورفض لغة التصعيد والعنف٠
يمكن ان نُعرف اللغة بأنها وسيلة للتواصل والتفاهم بين فرد وفرد اخر أو بين جماعة وأخرى، لكن يحتاج الطرفين لكي تتم هذه العملية بنجاح هو الإلمام بمفاتيح هذه اللغة وفك رموزها وحل شفراتها، فإذا كان الطرف الاول لا يعي ولا يفهم ما يتفوه به الطرف الثاني، يصبح الكلام عملية عبثية لا طائل من ورائها، ويبدو انه سر المشكلة الحاصلة بين الحكومة والشعب٠
كما هو معلوم ان الشباب مادون سن (٢٥سنة) يمثلون الغالبية العظمى من نسبة سكان العراق، أي اننا أمام مجتمع شاب يافع، له لغة خاصه به وطريقة تعامل يتميز بها، وجملة تطلعات وطموحات تنسجم مع افكاره، بغض النظر ان كانت تلك الأفكار صائبة أم الا!
أما الحكومة والمتصدين للسلطات التنفيذية والتشريعية فأغلبهم قد استنفذوا العمر الافتراضي لهم، الكثير منهم من الكهلة وكبار السن، وهم بلا شك قد تقولبوا على نمط معين، لايجرؤن على تغييره وهذا بدوره يخلق الحاكم والمحكوم هوة كبيرة٠
جمهور يتمتع بمثل هكذا شبابية، لا يمكن لحكومة كلاسيكية الهوى ان تلبي طموحه، فبرغم ان السرعة هي سمة العصر، الا ان المؤسسة الحكومية مازالت تمكث في عصور حجرية غابرة، مابين روتين مميت وبيروقراطية بغيضة، ضاعت أحلام الشباب٠
ورغم الشعار الذي تتوالى حكومات (مابعد ٢٠٠٣) على حمله، بوصفه هبة تمنحه للمواطن العراقي، وهو الحرية والديمقراطية، فهي تتمنن بتلك الشعارات على الناس، فات الطبقة السياسية، ضرورة تجديد تلك الشعارات بما يناسب المرحلة الراهنة، لان الفترة الزمنية الواقعة [٢٠٠٣-٢٠١٩] هناك جيل قد ولد ولم يشهد الدكتاتورية، ولم يتلمس الديمقراطية٠
جيل بأكمله تربى على النفور والرفض من طبقة حاكمة، لم تنتبه من هذه التراكمات، بل تعمدت تجاهل جيوش من الخريجين بدون أي فرصة كريمة بالتعيين، اضافة إلى عدم الاهتمام ببقية الفئات من المجتمع، مما غذت حطب الغضب بالمزيد من النار !
مما زاد الطين بله، سوء إدارة الحكومة للأزمة، وتمييع الحقيقة واستغفال المواطن والاستهانة بمشاعره ، ارقام الضحايا هي المقياس لدرجة حماقة الحكومة في إدارة ملف المظاهرات، أما التقرير الحكومي فجاء اشبه بالقشة التي قصمت ظهر الحكومة، اذ كان هزيل وخجول وضعيف ولم يقوى على مد إصبع الاتهام لجهة محددة، أو تشخيص الجناه، فضيعت الحكومة كعادتها الفرصة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من ماء وجهها٠
ان الحلول الترقيعية التي تجود بها الحكومة، محاولة بائسة لأمتصاص غضب الشارع، تكاد تكون أخذ قرص مهدي لمجابهة مرض السرطان، فالمرض كهذا لا يُعالج الا بأخذ جرعات كيمائية، أو الاستئصال٠
ان مواجهة تيار الشباب الصاعد المنادي بحقوقك التي كفلها الدستور، في ظل نظام ديمقراطي بهذا الأسلوب (العصملي ) الذي يمارسه رئيس الوزراء ليس هو الحل الناجع بالتأكيد،
على الحكومة ان تعيد قراءة الدستور أولاً ثم تجري التعديل اللازم ثانيا وتطبيق فقراته بشكل عادل ومتساو ثالثاً، وإلا فان الديمقراطية التي أتت بهم هي نفسها من ستطيح بهم٠