23 ديسمبر، 2024 8:58 م

شاعر قتيل في:(أغنيةُ حُب..وقصائد أخرى)

شاعر قتيل في:(أغنيةُ حُب..وقصائد أخرى)

“إذا ابتكر النهر ثانيةً لعبةً للغرق
سيضمخ كفي دمي
وسأصرخ من غرقي: ابتعدْ” مهدي طه/ 1975    
      
 لم ينأى أو يبتعد النهر البصري عن الشاعر الشاب (مهدي طه) ولم يهتم بلوعته أو يستمع  أنينه أو صراخه، إذا استطاع ذلك، ولم يشهد  ويستمتع بعذاباته، قبل نهايته، غير الـقـتـلة. (مهدي طه) المولود في البصرة عام1953 عثر على جثته غريقاً في الثلاثين من أيار عام 1975 بالقرب من نهر( الحكيمية) ويجاور النهر/ مديرية استخبارات البصرة/ ومعها/ مديرية المخابرات العامة للمنطقة الجنوبية/. ما أكثر الجثث ، التي عثر عليها طافية في الأنهار ، خلال ذلك الزمن. قرر الطبيب الشرعي بأن موته كان غَرقاً ، وهو البصري المولود قرب الماء، و يجيد السباحة منذ صباه. كما اختفت حافظة أرواقه التي كان يحرص على حملها معه. حافظة أوراقه كانت تحتوي على قصائده. الطبيب الشرعي، خان مهنته وحنث باليمين ، الذي أداه عند تخرجه. مع اعتراض والد القتيل على الطبيب ، فإنه أصر على تقريره ، ربما بسبب (بعثيته) أو خوفه قول الحقيقة ؟. الحقيقة التي شاهدها بوضوح على جثة (الغريق) غدراً ، فتجاهل الكدمات والآثار ، الواضحة ، و التي تكشف عن تعرض الجثة لها ، قبيل ما سمي (غرقه) المزعوم. الطبيب تجاهل الحقيقة:
” سيذكر أحفادنا،
بشعور الخجل المرير،
بعدما يقضون على الدناءة،
ذاك الزمن الغريب،
حين كان، ذكر الحقيقة البسيطة،
يسمى جرأة وشجاعة.” (ايفتشنكو)
2
الطالب(مهدي طه) ، كما أكد ليَ بعض المقربين منه، في مقهى أدباء البصرة ، تعرضه وبعض زملائه لاعتداءات ، من قبل عناصر الأمن الطلابي البعثي، عندما كان طالباً في كلية العلوم. يذكر (حيدر الكعبي)، شاعر بصري مقيم في الولايات المتحدة، محقق ومقدم(أغنيةُ حُب.. وقصائد أخرى) المجموعة الشعرية الأولى والأخيرة لـ(مهدي طه): “.. خلال عام 1972  في قاعة صغيرة  بثانوية البصرة للبنات..نهض (مهدي) من احد المقاعد الخلفية.. متجهاً إلى منصة الإلقاء..كان عليه أن يواجه العيون المحدقة فيه وهو مغمض العينين. كنت أقرأ في تعابير وجهه التوزع بين الحاجة إلى الانتماء والعجز عنه. كان هناك سلام هش يطبع ملامحه كغشاء رقيق ، يشف عن إحساس بالصلح  المهشم مع(الآخرين). وراح( مهدي) يقرأ قصيدته (صوتان على نافذة.. أنجيلا ديفز)..عملية إنشاده ذاتها كانت المناسبة التي تتنفس فيها وعبرها الروح ..على المنصة ثمة شيء، يُطبخ هناك بصبر وتؤدة…أشد تدميراً من أن يتسع  لها جسد بتلك الهشاشة ، فهمست لنفسي: الشاعر يعرف الشاعر مثلما يعرف اللص اللص”(ص7 ).
3
يواصل ” الكعبي”:كان ذلك أول الرحلة  التي ابتدأت عام 1972 لتنتهي نهاية مدوية وفاجعة، عام 1975  إذ انظم إلى القافلة أصدقاء جدد ، حميد كاظم ( القاص سمير أنيس) وسعدون حاتم( الشاعر آدم حاتم) كلاهما مات في لبنان. قاسم حيدر( الشاعر قيس حيدر) اعدم بتهمة الانتماء لحزب محظور، بعد موت مهدي طه ببضعة شهور، الشاعر كاظم حسن سعيد، سجن بتهمة اتهامه السلطة علناً بقتل مهدي طه ، التشكيلي عباس مكطوف( عباس بن فرناس) أُعيد من السويد مُجبراً ليُقتل في حرب الثمانينيات، وغيرهم” ( ص 9 -11 ). (مهدي طه) لم يكن يبدي اهتماماً بنشر نتاجاته الشعرية. أنا مع كل نشاطي  ومساهماتي الثقافية، البسيطة ،  في(بصرة) ذلك الزمن. لم أعرف عنه شيئاً . لم ينشر (مهدي طه) خلال تلك الحقبة ، لكن زملائه يؤكدون أنه ساهم في أمسيات ومهرجانات شعرية ، عندما كان طالباً في الدراسة الإعدادية وفي جامعة البصرة. وقصيدته ” إعادة رتيبة لسيرة الملك الضلّيل” معروفة من قبل مجايليه الشعراء الشباب،حينها. النسخ المنشورة في ” أغنية حُب.. وقصائد أخرى” مأخوذة عن مسودات بخط الشاعر، قام بتصويرها صديقه (محمد نوري قادر) وأرسلها إلى الشاعر ( الكعبي) عبر البريد الالكتروني، ولـقادر يعود الدور الرئيس في إطلاق سراح قصائد (مهدي طه) بعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف على ذلك الغياب المسمى ((غرقاً)).  يؤكد المحقق أن ثمة فجوات اكتظت بها القصائد، خاصة في  بداياتها، بسبب التلف الذي حل بالأوراق نتيجة القِدَم لكنه يؤكد إن القصيدة المعنونة ” أغنية حُب” كاملة. احتوت مجموعة الشاعر القتيل “مهدي طه”*على قصيدته المطولة المعنونة  “أغنية حب”(ص17 -95 ) إضافة إلى(21 ) قصيدة أخرى غيرها  ، وبذا فأن رحلة “مهدي طه” الشعرية موازية  تماماً لحياته الفعلية . المدهش في الأمر أن عمر الشاعر يعادل عدد قصائده!!. ترى هل كان ذلك مقصوداً من المحقق بصفته محاكاة لواقعٍ خاصٍ بحياة شاعر شاب  قتيل ، أو هو ما قد تحقق فعلاً؟. وانطوى منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف، أو هو مجاز عمد إليه المحقق – المقدم في ذات الوقت!؟.
4
” أيُّ نهرٍ تكشّفَ عنه الصباح الكثيف؟
أيها العابر الآن بين الظهيرة والجذوة المطفـأة
أيها المتعلق بين العيون وبين نوافذها الصدئة
أتمنحني السرَّ قبلّ الغياب؟
يا لَعُقْم النهاية إذ يستجيب الذباب
وكأنَّ الجسد
حين مرّر كفيه فوق تراب الخنادق مغتلماً
 حين عانق عينين مخضرّتين وراء ستار اللهبْ
ما تشهّى يواصلُ نَحْوَ الأبدْ
لا تَنَم..كفَّ عن أن تردد هذا الأنين
يجرّ خطاك إلى الصمت فيكَ
كما أن صوتي يميت صداي
ستفنى اليد المتصاعدة المطبقة.”  ص/ 109
………..  
“خذ كلابك للصيد يا سيدي
فالقطيع الذي صدْته جالباً لقطيعْ
دعه يرقدْ هناك بأمنْ
دعْ عصايَ، خطايَ، تجد نبعها
فماذا أقول لهذي الليالي
وهي تجري أمامي بعريٍ شهيّ
سوى أنْ لي سيّدا ولديّ قطيعْ؟.(ص147 )
في أغلب قصائد” مهدي طه” ثمة شاب مجروح الروح ، يصل حد الهوس، بالموت والفقدان والضياع والقنوط ويتوج كل ذلك اليأس:
“ما أنا غير صمت يفتش عن كلمة
كذبة تتغذى على اللهب المتورد
شيء بلا أي شيء
لعبة،
ضِعتُ،ضُعيِّتُ، عِشتُ،
نُقِشتُ على حائطٍ ،
لم يكن لي زمانٌ
أنا هو تأريخُ موتْ
ورمادٌ صديءٌ على عُلبةٍ فاخرة ” ص/112
5
الشعر حياة.. تلتقي فيها متناقضات الحياة ذاتها ، في عالم الشعر تتجوهر الأشياء و” تفقد حيثياتها وحجومها ويتساوى الجميع، الإنسان والحيوان، السيد والعبد،الجماد والنبات، الواقع والخيال الحقيقة والوهم” /عبد الجبار داود البصري/. لسنا هنا في البحث عن الثغرات في قصائد (مهدي طه) فبعمره وتجربته، لابد أن يكون ذلك، وبالاستمرارية في التمرن على كتابة الشعر، تنمو التجربة وتتطور شخصية للشاعر الواعد ، دون الاهتمام بارتكابه ، وفي شبابه بعض الهفوات والسقطات الشعرية ، البريئة بالضرورة. لدى (مهدي طه) ارتفاع صوت الأنا عالياً في أشعاره، ولا مكان لتعدد الأصوات في قصائده، مما قلل مساحاتها العامة ومنعها من الخروج من ذاته المغلقة. ثمة الكثير عن “فتاة مجهولة”؟.. دون أن نعلم أهي من لحم ودم؟. أم وهم شاب لم يتجاوز الثانية والعشرين عاماً!؟، ويحيا ضمن محيط اجتماعي مغلق. شاعر بعمره ينتابه الأسى والحزن دائماً. الحزن، في الشعر، يبعث على الفرح أحياناً، لكن عند “مهدي طه” لا تجد في قصائده شيئاً ، عن الفرح وألق الحياة وبهجتها. و من حدسه  المتواصل أن يتوقع لنفسه، ذات لحظة ما، الموت “غرقاً”، إذ تتكرر مفردة (الغرق) كثيراً في ما متيسر من قصائده !؟.
6
 سمعت بما حصل لـ” مهدي طه” ،حينها، لكنني لا اعرفه شخصياً، ولم أره نهائياً، مع أنه عاش وسكن، وربما ولد، في مدينتي (الفيصلية)، التي غادرتها مُجبراً بعد إعصار 8 شباط 1963 الدموي، مُرتَحلاً ومُرَّحَلاً، إلى أماكن عراقية شتى. فبين(مهدي طه) و بيني أكثر من عقد من السنوات.. لكنني علمت ثمة شاعراً شاباً  أسمه  (مهدي طه) قُتلَ وهو في الثانية والعشرين من عمره، حينها قلتُ بصوتٍ عالٍ في منتصف مقهى( الدكَّة):.. يا للفجيعة..أيها ((….)) أما آن لكم أن تدركوا أن ((للصبر حدود))!؟. فلامني بعضهم ، لا بل تهجم عليَّ علناً ، دون حياءٍ ، و قسم منهم تعهد  بالاهتمام المناسب بدم الشاب الشاعر القتيل ، الطري لحظتها!؟.
7
شاعر شاب بصري آخر، ومن معارف” مهدي طه” ، أكبر منه سناً بقليل ، ومن ( الفيصلية) أيضاً، غابَ غدراً، وتعددت وتضاربت الراويات حول غيابه وطريقة غدره!؟. لا علاقة شخصية ليَ معه وكذلك أسبقه بعقد من السنوات، لكنني كنت غالباً ما أراه عصراً أو مساءً ، يتمايل كثيراً، أيام سبعينيات شارع الوطني. ذات مساء ، وعبد الكريم كاصد إلى جانبي، رأى(كريم) وتوجه نحوه.عندها أخذه(كريم) من يده دون أن يعبأ بحالته تلك ، و التي لا تسر، حتى العدو!!.رأيته يسنده برفق جنب الحائط ، القريب من مكتبة (المثنى). وبقي يتحدث معه بمودة وحنان واضحين، فنأيت عنهما بضعة أمتار. طال وقوفهما. فتركتهما ضِجراً، نحو مقهى  الـ”دَكّـة”، مردداً مقطعاً من قصيدة لـ”سان جون بيرس”:
“يا لذلك السكران..
يبتعد عن ذاته
خيطاً رفيعاً
ليتـأرجحَ
بعقارب الزمن”.
 ثم لحقني “كريم” وفي المقهى لم يحدثني قط عما دار بينهما. بعد ذلك بسنوات، كتب عنه وأهداه قصيدته (السائر في الهواء) ونشرها ضمن مجموعته الشعرية،(دقات لا يبلغها الضوء/ دار الكنوز الأدبية/ ط1-1988):
 ” في شارع مزدحم بالناس  
تذكرت وقوفي الحائر
ومشيتكَ المسحورة في الهواء
وأنت مقبلٌ من بعيد
فوق بياضٍ
(لا يشبهه أيّ بياض..
أبداً..
أبداً)
ماذا تسميّه؟
ماذا اسميّه؟
وقد عدوت صائحاً وراءك:
أيها الملتفّ بالكفن
أيها السائر في الهواء
أما رأيتَني ؟”.
ذلك الشاعر الشاب هو (عبد الحسن الشذر). وكان ينشر بعض قصائده في صحف مرحلة السبعينيات، و مجلات السلطة، لكن عبر رؤاه وقناعاته و صوته الخاص. من الضروري أن يسعى “اتحاد أدباء وكتاب البصرة ” ، على نشر ما متوفر من نتاجاته في كتاب خاص. أقترح هذا.
*إصدارات اتحاد الأدباء و الكتاب العراقيين / البصرة/ طبع على نفقة شركة أسيا سيل للاتصالات / دمشق/ الغلاف: أمينة صلاح الدين. تحقيق وتقديم: حيدر الكعبي.