18 ديسمبر، 2024 11:18 م

شارع بيتنا الذي لايزال بدون تبليط منذ 58 عاما سبب حب أميركا

شارع بيتنا الذي لايزال بدون تبليط منذ 58 عاما سبب حب أميركا

ما الوطن ، وماهي الوطنية .. نحن الفقراء الجياع المقهورين .. نطالب الوطن الذي قذفتنا الأقدار فوق أرضه بالإعتذار لنا لما سببه من عذابات أوصلتنا الى درجة الجحيم ،وقد تكون 99 % من معاناتنا ومشاكلنا في الحياة كانت ستختفي ولم نتعرض لها لو ولدنا في بلد متطور آخر غير العراق ، من المؤسف لاأحد يتحدث بصوت عال عن لعنة الأوطان ، نحن في الشرق نتمسك بالشعارات ونخضع لعبودية الأفكار ونتجاهل مصالح الإنسان ، وصلت الى عمر 31 عاما حينما غادرت البلد ، ولم أكن أشعر بمشاعر وطنية نحو العراق ، كيف تحب طرفا ما لايبادلك الحب ، بل هو سبب تعاستك -لاحقا في بلاد المهجر شعرت بالإنتماء للعراق وواجب الكتابة حول مشاكله والدفاع عنه – كنت لاأعرف معنى الوطن ، بل كنت أشعر بالنفور حينما إسمع كلمة وطن التي أراها إختزالا لمعنى الحاكم المتسلط والحزب الحاكم حينها.

منذ عام 1962 سكنا في منطقة صحراوية في كربلاء حيث لايوجد ماء ولاكهرباء ، وكانت أمي تمشي مسافة أكثر من ساعة لجلب الماء ، توفيت أمي قبل ثلاثة أشهر وأخذت عذاباتها معها ، كنا عرضة يوميا لطوفان هيجان الصحراء التي تلقي برمالها علينا ولم تستطع جدران بيتنا المكونة من سعف النخيل توفير الحماية لنا من إختراقات موجات التراب ، وكانت مجموعة من الفقراء تسكن تلك المنطقة تواسي بعضها وتتضامن ، وأيضا تخوض صراعات حيوانية بدائية فيما بينها شبيهة بصراعات المثقفين والساسة -لافرق- حيث يقبع الشر في نفوس كافة البشر بدرجات متفاوتة ، وقد رأيت قصصا مفجعة من عذابات الفقر ،على سبيل المثال : في أحد الأيام أرسلت أمي من باب تضامن الفقراء بعض الطعام معي الى جارتنا التي سمعتها تناجي الله بعد أخذها الطعام مني قائلة : (( إلهي الغدا دبر ، شلون راح أدبر العشا !)) ، لكن الله يبدو لايرى ولايسمع أو غير موجود نهائيا ولهذا تُركت المخلوقات تتعذب منذ الخليقة ولغاية الآن !

شارع بيتنا منذ 58 عاما ولغاية هذا اليوم لم يتم تبليطه ولايزال ترابيا ، هل الوطنية هي تطبيق لشعار (( نموت ويحيا الوطن )) أم هي علاقة تفاعلية بين الحقوق والواجبات ، وهل هي إنتماء ثابت ، قطعا الوطنية ليست قدرا ثابتا بالنسبة لوطن مسقط الرأس الذي إختارته الأقدار لنا وهو ليس بالضرورة تتجسد فيه أحلامنا وطموحاتنا وراحتنا … فالوطن إختيار أولا ثم إنتماء بعد توفر شروط العلاقة التفاعلية بين الحقوق والواجبات ، وحرية الإنتماء لوطن معين غير بلد مسقط الرأس حق أصيل وتطبيق لمبدأ حرية التنقل والسكن وإختيار الإنتماء لجماعة بشرية ورقعة جغرافية وحضارة ما … وهذا الحق هو ليس خيانة لوطن مسقط الرأس مثلما يخطيء الوعي العربي في الحكم عليه.

وصلت الى الولايات المتحدة الأميركية وانا أحمل معي ( نصف دولار ) فقط أي في حالة إفلاس تام ، وفي داخلي مجموعة من الأمراض : سكر ، كولسترول ، شرايين القلب ، فقرات عنقية ، مشاكل العين، إكتئاب ، إحتضنتني أميركا بحنان الدولة التي تعترف بحقوق المواطن ،وأنقذت حياتي مستشفياتها ، وأعطتني أميركا تأمين صحي مجاني وراتب تقاعدي وشقة بإيجار رمزي ، ومنحتني الجنسية دون ان تطلب مني أي مقابل مما يدور عادة من إتهامات في العقل العربي ، علما انا على إستعداد تام للدفاع عن أميركا بشتى الطرق بشكل تطوعي مجاني بدافع إيماني بقيم الوفاء للبلد الذي فتح أبوابه لي وإحتضنني ، وقد تجاوزت علاقتي بأميركا قضية إستقادتي الشخصية منها ، وشملت حبي لتاريخها وجغرافيتها وإنجازاتها العلمية حيث تطور إرتباطي الى الشعور بالإنتماء العميق لأميركا .

وفق القيم الأخلاقية ماذا يفترض يكون موقفي من أميركا .. أليس يفترض ان أكون وفيا وشاكرا لمن قدم لي هذه الخدمات ، هذا اولا .. ثم من الذي يمنع من الأنتماء الفكري والروحي للحضارة الأميركية بعد إستبعاد الدعاية السياسية العدوانية والكلام الغوغائي ضد الولايات المتحدة الأميركية .. بالتطهر من سطوة الأيديولوجيات العدوانية : اليسارية والقومية والإسلامية .. صار عندي وطن خفف عني ورطة الحياة وعالج جروح العراق ، وطن لأول مرة في حياتي أشعر فيه بالأمان الإقتصادي والصحي والسكني ، وانظر بحب كبير فيه الى الشرطة والأجهزة الأمنية الاخرى على انهم رجال شجعان يحمون حياتي ويسهرون من أجلي .. ما أروع ان تنتمي لوطن يبادلك الإحترام والحب ويرعاك ، وطن لايعاني شارع بيتك فيه منذ 58 عاما وهو بدون تبليط ولايزال ترابيا!