ثبت ان الحروب والصراعات الدموية بمختلف انواعها لا تستهدف فقط تدمير البنى التحتية لبلد ما وازهاق ارواح اكبر عدد من البشر تحقيقاً لمكاسب سياسية او عسكرية, بل ان آثارها السلبية وتداعياتها الخطيرة يتعدى ذلك الى ماهو افضع واكثر ضرراً.
حروب متلاحقة وكوارث عدة فرضت على شعب العراق المسكين فعصفت به دون هوادة لا لسبب مقنع او مسوغ قانوني او منطقي يدفع بأتجاه المواجهة والتضحية, بل هي جاءت ارضاءاً لاهواء ومزاجات الذين حكموا العراق وتسلطوا على رقاب ابناءه بما يتماشى مع نزعاتهم التوسعية وتلبية لرغباتهم ونواياهم الشيطانية. فكان قدرهم تحمل اعباء تلك المغامرات الجنونية التي احرقت الحرث والنسل وعانى منها الجميع الامرين والحقت الدمار في جميع نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وبالاخص الثقافية منها. ولازال ابناء هذا البلد الصابر المؤمن يدفعون ثمنها عرقاً ودماً وهم مكبلين بقيود الفقر والمرض والعوز.
شارع المتنبي الذي يتوسط العاصمة بغداد والمطل على نهر دجلة يعرفه كل من كان دأبه قراءة الكتب وتثقيف نفسه. فهو ملتقى الادباء والمفكرين والفنانين وطلبة العلم. اقتبس اسمه من اسم (ابو الطيب المتنبي) اعظم شعراء العرب تيمناً وحباً به كقامة من قامات الشعر والفصاحة والبلاغة. فأصبح هذا المكان ايقونة للثقافة العراقية واحد اوجه بغداد الحضارية. تتزين مكتباته وارصفته بأصناف والوان الكتب والمؤلفات ليجد فيها المرء كل ما تستهويه نفسه وعقله من كنوز معرفية في مجالات عدة. حتى غدا هذا الشارع السوق الثقافي الاوحد. تتعالى فيه صيحات الباعة ويتنافسون فيما بينهم لعرض آخر النتاجات الفكرية في عالم التأليف والكتب.تلقى فيه الخطب والابيات الشعرية وتروى فيه ايضاً تلك القصص والحكايات الشعبية المحببة لدى العراقيين في اجواء رائعة لاتخلو من متعة, حتى غدت المقاهي المنتشرة الكائنة فيه اشبه بمجالس ادبية يرتادها الرواد والمفكرون لاستعادة مافقدوه من ذلك الماضي الجميل. اشياء كثيرة يتميز بها هذا المعلم الثقافي العريق فمكتباته الزاخرة بالكتب والمخطوطات النادرة ومطابعه العريقة ومقاهيه كمقهى (الشابندر) جعلته اسمى من ان يكون مجرد سوق تنشط فيه تجارة الكتب.
ما تعرض له شارع المتنبي كغيره من مناطق بغداد المنكوبة من استهداف بشع بتاريخ الخامس من آذار عام 2007 يأتي استكمالاً لحلقات المسلسل التآمري التخريبي الذي يستهدف العراق. اذ يذكرنا بما قامت به قطعان المغول الوحشية من عمليات قتل وحرق وابادة في وقت كانت فيه بغداد تزهو بعلمها وفكرها وتعيش ايام مجدها التليد. وهنا اعيد لاذكركم بما قلته في بداية المقال عن مبلغ ما تعرضت له صروح الثقافة العراقية قديماً وحديثاً بل وحتى عقول العامة من استهداف واضح بصورة او بأخرى. ولا غرابة في ذلك ابداً لان الضرر الذي لحق بالجانب الثقافي هو نتيجة طبيعية لما آل اليه الوضع العام في العراق من دمار وانحطاط.
الامثلة كثيرة ومؤلمة في الوقت ذاته وليس في النية تناولها بأسهاب ولكن غرضي ايها الاخوة هو تسليط الضوء في سطور قليلة على شئ ملفت للنظر قد لمسته مؤخراً وانا اتجول في شوارع بغداد واتنقل بين ازقتها ومحلاتها العتيقة. ولطالما انتابتني مشاعر ألم وحسرة وغصة في القلب كلما ساقتني قدماي لأرى وجوهاً اخرى اشد قبحاً لتلك الحروب التي القت بضلالها على كل شئ في العراق وملئته بؤساً وشقاء. فبعد ان كانت بغداد الرشيد تزخر بأرثها الكبير وتراثها التأريخي والثقافي العريق اصبحت اليوم خاوية على عروشها تعاني الفوضى والاهمال والتسيب وغياب الرقابة على مرأى ومسمع دعاة الديمقراطية والحرية والتحرر والخلاص من الدكتاتورية.
يشهد شارع المتنبي عند صباح كل يوم جمعة اقبالاً كبيراً من الناس والمتبضعين من هواة القراءة والمطالعة واصحاب المكتبات التجارية. اذ اعتادت الطبقة المثقفة من العراقيين والبغداديين على وجه الخصوص الذهاب اليه لاقتناء مايرغبون من كتب ومؤلفات يزدادون بها ثراءاً فكرياً وعلمياً وتتزين بها رفوف مكتباتهم البيتية. ولا اغالي ان قلت ان هذه العلاقة الحميمية مابين المثقف العراقي وشارع المتنبي وضرورة التواجد فيه بشكل مستمر اصبح طقساً مقدساً من طقوس حياته اليومية وصدق من قال ” القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ “
لقد شاءت الصدفة ان اتجول في هذا السوق بعد غياب لمدة ليست بالقليلة فلم اجد للاسف الا انحرافاً وتغيراً واضحاً في طبيعته. فالارصفة على جانبيه استعاضت عن الكتب بأكداس حمراء من الهدايا وباقات الورود و (الدباديب) بأحجام مختلفة ونماذج عدة تيمناً وابتهاجاً بقرب حلول عيد الحب (المبارك) مع قليل من الكتب المتناثرة هنا وهناك. قد يكون الامر تافهاً ومدعاة للسخرية في اعين الكثيرين ولكنه حسب اعتقادي من الامور المعيبة التي تستدعي كشفها والوقوف عندها ولو بكلمة وهو اضعف الايمان. انه لمن الاشياء المخجلة بحق هذا المكان الذي يمثل بيتاً ثقافياً يحتضن الجميع وعلى الجميع وبالاخص ذوي الشأن منهم الحفاظ جهد امكانهم على المسار المهني
لهذا المكان فالامر مناط بهم في الحفاظ على هويته الثقافية الرصينة من الضياع بين ركام ومخلفات الاحتلال البغيض. وهي دعوة موجهه ايضاً للمعنيين في الحكومة وفي المقام الاول وزارة الثقافة لضرورة الالتفات الى هكذا سلبيات وتشخيصها وتقديم ما يقتضي من دعم.