لازلت اتذكّر قهقهات طلبتي في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد وتعليقاتهم , عندما كنت أقرأ لهم ( ضمن مادة النصوص الادبية ) مقاطع من هذا العمل الابداعي المتميّز لغوغول , واحاول ان اجعلهم يساهمون معي بترجمة تلك المقاطع الى العربية, وعندما وصلنا الى المقطع الذي يصف فيه غوغول كيف وجد أحد ابطاله (أنف زبونه في قطعة الخبز), فاذا بواحدة من الطالبات ( التي كانت بالكاد تحاول ان تسيطر على ضحكها ) تسأل – همسا – زميلتها ( وبلهجتها العراقية الجميلة ) – (.. شنو غوغول جان مخبّل ؟) , اي , هل كان غوغول مجنونا ؟ ولم تجرأ هذه الطالبة طبعا ان تطرح عليّ هذا السؤال , أما أنا , فقد تغاضيت عن ذلك , واستمر الدرس وكأنني لم اسمع تلك الهمسات , وانا احاول ايضا ان اكتم ضحكي , ونسيت الامر بعدئذ كليّا , ولكنني تذكرت (همس طالبتي!) الان , وبعد مرور أكثر من ربع قرن , عندما قرأت ما كتبه الصحافي محمد حسن المرزوقي بمقالته بعنوان – ( أنف غوغول ) في صحيفة ( الامارات اليوم ) حول انطباعاته بشأن رواية غوغول القصيرة – ( الانف ) , فهو يقول – ( …لو أردت ان أصف غوغول ..بكلمة , فلن أجد أفضل من كلمة مجنون ..) , اي انه كرر واقعيا استنتاج طالبتي آنذاك في تلك السنين الخوالي حول جنون هذا الكاتب , الذي كتب لنا ( الانف) , الا ان الصحافي هذا ( وكذلك طالبتي طبعا ) كان مندهشا ومعجبا جدا بذلك النتاج غير الاعتيادي بكل معنى الكلمة , وكتب خلاصة صحيحة جدا وذكيّة عنه , قائلا – ( …انها … قصة موغلة بالرمزية … وكل قارئ يستطيع تفسيرها بطريقته الخاصة …) , وهذا تحديد دقيق فعلا , وقد رافق هذا ( التحديد!) واقعيا تلك الرواية القصيرة منذ ان كتبها غوغول عام 1834 وذهب بها الى احدى المجلات لنشرها , الا ان المسؤول هناك رفض ذلك , و اعتبرها غير صالحة للنشر, اذ انه لم يفهم – ( كيف يمكن لانسان ان يستيقظ من نومه ويكتشف انه بدون أنف ؟) , ولكن بوشكين ( شاعر روسيا الاكبر ) نشرها عام 1836 في مجلته ( سفريمينك ) ( المعاصر) وبكل اعجاب , اذ انه ( فسّرها بطريقته الخاصة !) , وكتب ملاحظة حولها , وقال فيها , ان غوغول لم يوافق على نشر هذه النكتة , لكننا وجدنا فيها فنتازيا ومرح واصالة , واقنعناه ان يسمح لنا ان نتقاسمها مع الجمهور والتمتع بها , اي ان بوشكين وجد فيها تلك الصورة الفنيّة الاصيلة والمبتكرة , التي تعكس خيال غوغول وغرائبيته وعالمه الخاص به , والذي يميّزه عن كل الادباء الروس الآخرين حوله . ومنذ ذلك الحين , اي منذ الثلث الاول من القرن التاسع عشر والى حد الآن ( ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ) , يوجد دائما من ( يفسّر) هذا النتاج بطريقته الخاصة , رغم ان النقد الادبي الروسي آنذاك لم يركّز على ( أنف ) غوغول , بل كان مشغولا بجوانب اخرى كثيرة ومتشعبة من نتاجاته الابداعية , مثل مسرحيته المدويّة ( المفتش ) , والذي حضر القيصر الروسي نفسه عرضها الاول عام 1836 في بطرسبورغ , او ببطله ( تاراس بولبا ) , تلك الشخصية الاوكرانية البطلة , التي كانت تمجّد الامبراطورية الروسية وقيصرها ضد البولونيين , والذي قتل ابنه لانه تعاون مع الاعداء البولونيين , ولم يتوقف عند ( الانف ) حتى بيلينسكي , الناقد الادبي الروسي المعروف , والذي لا زال اسمه يرتبط برسالته التوبيخية الشهيرة الى غوغول و ردود الفعل المتباينة بشأنها لحد الان , رغم ان بيلينسكي أشار الى ( الانف) في تعليق سريع في نفس مجلة بوشكين بعد عددين من صدورها, وتحدث قليلا عن ازدواجية بطلها ليس الا , وهي نقطة تعبّر بشكل دقيق عن وجهة نظر معروفة لهذا الناقد , الذي كان يؤكد دائما على الجانب الاجتماعي في كل النتاجات الادبية , بل ان هناك من كتب , ان غوغول في روايته القصيرة الانف ( شجب !) النظام القيصري في روسيا آنذاك , وان غوغول اراد ان يقول , ان هذا نظام يعتمد على الرشاوي …ولا مجال هنا لعرض كل وجهات النظر المتباينة عن هذه الرواية القصيرة لغوغول , ولكن من المؤكد , ان هذا التباين الصارخ ( ان صح التعبير ) يثبت , حيوية هذه الرواية لحد الأن , وخير دليل على ذلك , انها تحولت الى اوبرا على يد الموسيقار السوفيتي شيستوكوفيتش , والى فلم سينمائي سوفيتي , وساهم المسرح السوفيتي في مسرحة هذا النتاج ايضا , بل هناك فلم فرنسي وآخر بولندي لها , ولكن ألطف وأغرب من ذلك ما حدث في بطرسبورغ عام 1995 , اذ تم افتتاح تمثال لهذا ( الأنف ) , وفي نفس الشارع الذي ذكره غوغول في روايته , الا ان هذا التمثال اختفى , وهكذا ( ضاع) انف غوغول مرة اخرى , فقرروا عمل تمثال بديل , وأنجزوه فعلا عام 2002 , ولكن تم ايجاد التمثال الاول , فقرروا اعادة التمثال القديم الى مكانه , ووضعوا التمثال الثاني ( البديل) في مكان آخر عام 2003 , وهكذا اصبح لهذا الانف تمثالين في بطرسبورغ , وفي عام 2009 , وبمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لميلاد غوغول ( والتي اعلنت منظمة اليونسكو انها سنة غوغول ) تم افتتاح تمثال ثالث لهذا الانف في كلية الفيلولوجيا ( اللغات وآدابها ) بجامعة بطرسبورغ , وهناك تمثال رابع له في كييف – عاصمة جمهورية اوكرانيا ( وطن غوغول), اذ ان غوغول تحوّل الى مادة للصراع الروسي – الاوكراني كما هو معروف …
لقد أصبح (أنف) غوغول شهيرا جدا و متميّزا فعلا في مسيرة ابداع غوغول بشكل خاص , و في تاريخ الادب الروسي بشكل عام , وحتى في ( عدد!) التماثيل التي اقيمت لهذا (الانف !!!)…