22 ديسمبر، 2024 8:24 م

سّر ” الخرق الامني ” !

سّر ” الخرق الامني ” !

مرة اخرى،  نقف باستغراب وحيرة  امام ” الخرق الامني “. مرة اخرى يتكرر المشهد الذي  تعوّدنا عليه الى حد التسليم  والاستسلام .  سلسلة تفجيرات مهولة تضرب تجمعات الابرياء ، اسواقا ومدارس و احياء  سكنية .ومرة اخرى تتطاير اشلاء النساء والاطفال الممزقة  وتغطي سحب الدخان السماء وتتفشى في الهواء روائح بارود وشواء بشري  وتصطبغ الارض بلون الدماء والاشلاء ،مخلفة الحزن والبؤس والدمار ، في مشهد ظل يتكرر على مدى  عشرة  اعوام  بلا اي تغيير ، تقريبا !
وكما تعوّدنا ، تعالت الاستنكارات والاستهجانات والتعهدات بالامساك بالفاعلين والتوعدات بالاقتصاص منهم وانبرى العديدون ممن قالوا وكتبوا بهذا الشان ليعيدو ا ما قالوه وما كتبوه لمئة مرة قبل اليوم … مراثي وتفجعات ، حماسات وشتائم ، اضافة الى  تكرار ما بدا مملا وبلا معنى  “خرق امني ، فساد اداري ، جماعة القاعدة ، الحواضن ، الوهابية والتكفيريون ،ازلام النظام السابق والبعث الاجرامي ، السلفيون ، التساهل مع الارهاب ، ضعف الجهد الاستخباري ،اطلاق سراح السجناء، ثم السعودية وقطر وتركيا …. ألخ الخ!   وما كان لكل هذا سوى ان يزيد  المرارة والالم الذي تضيق به الصدور ، بالنسبة لعامة الناس ويكرس الشعور بالعجز حقا امام ما يبدو  لغزا عصيا على التفسير والحل ، و يعمق الخوف الغريزي ، من ذلك الموت العشوائي  العابث ، حكم الاعدام الحقيقي المعلق فوق رؤوس الاطفال والسابلة والمتبضعين ومن هم في طريقهم الى العمل والبسطاء من رجال الشرطة او الجيش وغيرهم وغيرهم ، حكم اعدام يتربص بهم في كل شارع وعند كل تقاطع ولا يمكن لاحد ، فيما يبدو ، ان يمنعه ويحول دونه !
في ما مضى من سنوات ، وعقب كل مذبحة ، كان يطل علينا السيد قاسم عطا ويطرح علينا  حسابا ، “مهنيا “،مقنعا نكون فيه من الرابحين ، دائما ، والمدينين له وللاجهزة الامنية ، بالرغم من كل ماحدث  : ” كان مخططا ان تنفجر اربعون سيارة  مفخخة بضمنها بعض صهاريج الوقود، وكان  عدد الضحايا يمكن ان يصل الى الالوف، لاسامح  الله، لقد امسكنا  ثلاثين منها ولم تنفجر سوى عشر فقط وعدد الضحايا والحمد لله لم يتجاوز المئتين ” ونتنفس الصعداء ، اذن فنحن مدينين للحكومة ، ولاجهزتها الامنية الساهرة بثلاثين  مفخخة وبارواح ما لايقل عن الف ضحية .. اي كرم  واي انجاز !! كان السيد الناطق باسم  الخطة الامنية يتبع حرفيا مثلنا العراقي الشهير ” شوّفهم الموت حتى يرضون بالسخونه “!  ثم انتهى الامر بالرجل الى ان يجزم  ، ان الارهاب في طور الاحتضار، بفضل خطة فرض القانون ، وانه يلفظ بالفعل انفاسه الاخيرة وهذه  العملية الاجرامية البائسة ، انشاء الله ، آخر ما بجعبته ، لكن السيد “عطا “ذهب وبقي الارهاب ، هو هو !
هذا هو ، اذن ، ” لحن الخلود ” الذي تعوّدنا على سماعه دون ان نطرب له ، مع تنويعات طفيفة تلائم هذه المقتله او تلك المذبحة. ثمة شيء آخر اكثر  اشكالا. فبعد كل نازلة من هذا النوع تصدر تصريحات وبيانات تؤكد ان الاجهزة المختصة قد القت القبض على العشرات من الارهابيين واكداس من العتاد واكتشفت بضعة معامل تفخيخ ومخازن كواتم …. حتى ان اي حساب بسيط لعدد الارهابيين الذين القي القبض عليهم واعترفوا بافعالهم الاجرامية ، منذ عشرة اعوام وحتى اليوم يفوق عشرات الالوف اما كميات العتاد والاسلحه التي صودرت والسيارات المفخخه التي فككت  فحّدث ولا حرج ، ناهيك عن ان هذه الاجهزة قد القت القبض على كل وزراء وولاة  ووكلاء وزارات ورؤساء اركان “دولة العراق الاسلاميه” ، فمن بقي اذن ليفجر وليفخخ  لكي تطل علينا ” دولة العراق الاسلامية” او القاعدة بعد ايام وتدّعي مسؤوليتها عن خرق يفوق بحجمه وضحاياه ما عهدناه من خروق !
لو كنّا في بوركينا فاسو ، او جزر القمر ، او الواق واق لاستنتجنا ببساطة واطمئنان ان الارهاب مجتث لامحالة ، منذ سنته الاولى . فوفقا لما يعلمه كل رجل امن بسيط او شرطي عادي او بالكثير موظف في التحقيقات الجنائيه او العدليه  فان ماتراكم من معلومات جراء اعترافات ليس الالوف ولا المئات بل فقط العشرات ، يشكل خبره معتمده بالهياكل التنظيمية لهذه المجموعات  وصيغ ارتباطها  وطرائق عملها وحواضنها  وقدراتها التسليحية وتكتيكاتها القتالية ومصادر دعمهاو تمويلها  الداخلية والخارجية ولمسكت سجلات ، تحّدث باستمرار ،بكل شاردة وواردة تخصها ، (فنحن بعد كل شيء في عصر الكتابة ويفترض ان هناك تدوينات  ولا اعتقد ان كل التحقيقات تجري شفاها ولا توثق)!،ولزرعت خطوط تنظيمية لعملاء سريين فيها ولاخترقت تنظيماتها غير المكشوفه بعد ولبثت العيون والمصادر المعلوماتيه عند اماكن تواجدها وحواضنها وللغمت نياسم تسللها ،ورسمت ، على اساس ذلك كله، الخطط لمواجهتها والقضاء عليها ، حتى  اصبحنا قبلة  من ابتلى بالارهاب من الدول  والمجتمعات يتزود منا بالخبرة الاكيدة والمعلومة المفيدة والعلاج الناجع !
هناك  بضعة  احتمالات  منطقيه  يتعين علينا تأملها مليا :اما ان تكون هذه المنظمات الارهابية حقيقة فعلية وعلينا ان نقبل في هذه الحالة واقع  انها منظمات منيعة لاتقهر وان قدراتها المخابراتية قد اخترقت كل مفاصل الدولة بحيث انها  تملك المعلومات الاكيدة والتفاصيل الكافية لكي تختار ما تريد من مواقع وتضربها بسهولة ويسر مخترقة دفاعاتها وقت ما تشاء ، وانها منظمات  تحضى بقبول جماهيري واسع بدليل ان القاء القبض على الالوف من اعضاءها لم يفّت من التفاف الناس حولها وانتسابهم اليها واقبالهم على الموت تحت رايتها بعد كل هذه السنوات  وانها ذات قدرات تسليحية  وتمويلية لا تنضب وبذلك فنحن نواجه، عبثا ،قوة سوبرمانية لا قبل لاي مجتمع بها ، بل ، هي ، في مثل هذه الحالة ، تضع وجودنا وشرعيتنا موضع التساؤل ! واما ، ثانية ، ان تكون  حقيقية بالفعل ولكن اختراقاتها وتمكنها لايحصل بفعل كفاءتها وقدراتها الفذة  هي وانما  يعكس هشاشة وضعف  وفساد وزيف وكارتونية ما يواجهها من اجهزة  وشخوص وقدرات وستراتيجيات . وفي هذه الحالة يتعين علينا ان نراجع هذه القدرات ونتفحص هذه الاجهزة ونستبعد تلكم الشخوص ونعيد النظر بتلك الستراتيجيات . واما ان تكون ، هذه الجهات، كما يذهب البعض  ، شبحية ، وهمية ،  لا اساس لها في الواقع ولا كيان لها في الحقيقة وفي هذه الحالة يتحتم علينا التفكير في ان تكون غطاءا وتمويها وشماعة لغايات واغراض  تكتيكية وستراتيجية للقوة المهيمنه سياسيا واجرائيا او القوة او القوى المتنافسة والمرتبطة بنوع من  ميثاق او قانون الصمت او ” الاوميرتا ” بلهجة المافيا الايطالية  الذي يمكن ان نترجمه الى اللهجة العراقية ب” قانون التغليس “(1) او لقوة عالمية مهيمنه تتحكم في مجريات الواقع العراقي وسيرورته  الى غايات معينه  ولا يجرؤ احد على كشفها او الاشارة اليها رغم ما يتوفر له من معلومات .وفي ضوء ذلك يحسن بنا الالتفات الى الوقائع التالية واخذها بنظر الاعتبار :
اولا -بعد ان ملأ العراق رعبا ودماء ، في صورة مشابهة لمجريات الامور من بعده ، ولكن بشخصيات اخرى لاتقل عنه غموضا ،قتل الزرقاوي ، في غارة امريكية ، وقدمت لنا صور قصف وتدمير البيت الذي كان فيه فلماذا لم تلقي القوات الامريكية القبض عليه  وكان من اليسير عليها فعل ذلك ،ولماذا لم يخضع للتحقيق او المحاكمة ولماذا انطوى كل شيء معه فلم نعرف عنه ولم نر له سوى صورة لاندري مدى صحتها وتسجيلا  فديويا فضح منتجيه حيث  وضح ان  الزرقاوي يجهل حتى استعمال البندقيه الشخصيه !! ومثله كان امر بن لادن الذي ابتلع جثمانه البحر مع كل اسراره بعد ان قتل في غارة امريكية على ما قيل انه مسكنه في الباكستان وترك  حلفاء امريكا من الباكستانيين في حيرة من امرهم   عن السبب الذي دعى الامريكان الى قتله وليس اعتقاله؟!. وهكذا يجري الحال مع  بقية رموز وشخوص الارهاب، هنا وفي كل مكان . علما بان هناك تيار لايستهان  به من السياسيين والكتاب والناشطين الامريكين والاوربيين ينحو هذا المنحى ويقول بهذا القول ويدعمه بالادلة والوثائق ، وآخر هذه الوقائع  فضيحة ” ستيل “.
ثانيا –  هناك وقائع كثيرة ، يعرفها العديد من العراقيين ، تبّين مدى كارتونية وزيف هذه المجموعات وكيف انها كانت تعمل بدعم وحماية المحتل الامريكي ، وثمة وقائع اخرى القي فيها القبض على بعض عناصرها غير انهم سربوا ووقائع عملهم بحرية في السجون واتصالاتهم وقيادتهم لهذه النشاطات من داخل السجون امر يقره المسؤلون الامنيون والعدليون، حاليا ، ويتذمرون منه ، دائما ، فاية قوة تفرض على هؤلاء المسؤلين  الخضوع والسكوت على مضض واتاحة مثل هذه التسهيلات لهم في اريحية غير معهودة ولا يتمتع بمثلها الابرياء !
ثالثا – ان محافظات واقاليم العراق ، برغم الوحدة الظاهرة والسيطرة الحكومية الشكلية  ، هي مناطق نفوذ وساحات عمل مغلقة لقوى العملية السياسية المتنفذة  وهذا الامر يسري على احياء بغداد تماما ، وان الحرب والتوترات والصراعات بين هذه القوى غالبا  ماتكون ميادينها  هذه الساحات وضحاياها من الناس الابرياء ، في تواطؤ وسكوت متبادل !
رابعا – كما هو معلوم ، فان مسؤولي الحكومة واعضاء البرلمان وقادة الحركات السياسية النافذة لهم مواكب  واليات تتنقل بحرية ولها  تسهيلات وحصانه تمكنها من ان تحمل الاسلحة والمتفجرات وتجتاز نقاط التفتيش  بيسر وسهولة.
 خامسا – ان العراق بعج بشركات الحماية الاجنبية والمحلية وهي  مرخصة ومسموح لها بالتنقل بحرية وحمل الاسلحة .  وبعضها يصل الى مستوى جيوش صغيرة ، كما كان شان ” بلاك ووتر ” مثلا ،وانها يمكن ان تقوم بما تقوم به وفقا لاية اجندات تخدمها .
سادسا – ان السيطرات واجهزة كشف المتفجرات هي وهم لايغني ولايسمن ولا يمثل اية درجة من درجات الحماية اذ يمكن اختراقه بكل يسر .
سابعا –   ثمة جهات واشخاص ، يشار اليها تلميحا ، بانها ضالعة او داعمة لهذه الاعمال الاجرامية  وان ادلة كافية تتوفر  عنها ، غير ان لاشيء يثار ضدها سوى الاحتفاظ بملفات تستخدم عند الحاجة وهذا  دليل ما اشرنا اليه من تواطؤ مشروط ومتبادل اشار اليه غير واحد من رؤوس العملية السياسية سابقا اضافة الى ما يمثله من استخفاف بامن الوطن والمواطن .
ثامنا – ان هذه العمليات تتصاعد عند حدوث ازمة او توتر سياسي بين اطراف العملية السياسية او حينما يراد تمرير رغبة ما او ارادة ما او للضغط من قبل القوة العالمية المهيمنه على مقدرات العراق او القوى الاقليمية النافذه .
تاسعا –  ينبغي ملا حظة ان اقليم كوردستان نادرا ما تعرض لمثل هذه الاختراقات وفي مناطق محددة واوقات معينه ،  وقراءة متانية لهذا الواقع سوف تفضي الى مؤشرات مهمة على هذا الصعيد .
عاشرا _ ان القول بان الاجهزة الامنية مخترقة وان كبار الضباط فيها فاسدون و بعثيون ومخترقون لم يعد حكرا على المتصدين لقراءة الوضع السياسي والامني او القوى السياسية المعارضة والمناوئة وانما باتت تصرخ به ،عند كل خرق امني ، قوى الحكومة نفسها ، فما الذي يمنعها من معالجته ، ومن يفرض عليها بقاء هؤلاء الفاسدين او البعثيين في مناصبهم ؟  واذا كانت هناك جهة تفرضهم فلماذا لاتكاشف الحكومة الشعب فيغفر لها عجزها  ويتفهم موقفها ؟
ان كل ما تقدم ، على عجالته ،يفضي الى ان “الخرق الامني ” شيء ينبع من طبيعة  الوضع ا لقائم بقواه وتوازناته واجنداته وصراعاته  وقواه المحلية الفاعلة واطرافه الاقيليمية والدولية الداعمة وضغوطها وغاياتها  واننا لن نشهد في  القريب العاجل او المدى المنظور نهاية  حقيقية له . اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ، انه نعم المولى ونعم النصير !