23 ديسمبر، 2024 11:08 ص

سُرَّ من قرأ كتاب التدخين

سُرَّ من قرأ كتاب التدخين

يكاد المشهد يكتمل ، والرؤيا تتّضح ، والعبارة لا تضيق ، والسطر يجري بمستَفَزٍّ له . مساحة الظلام في المنظر ، أزيد من مساحة النور . أستطيع القول ، إنَّ المدينة نائمة . أنا أحبُّ هذا . شرفتي دافئة ، وعندي ضبّة سكائر بائتة . قبل أوّل البارحة ، قبضتُ بيميني الواثقة ، على علبة الدخان ، وهشّمتها تهشيماً لا قيامة لها من بعده ، وسلّمتها إلى حلق سلة الزبل . كانت ثمة صورة فوتوغرافية شديدة الوضوح ، مطبوعة فوق وجه الباكيت . بطل الصورة ، طفلٌ حلوٌ مثل نؤاس ، الذي مثله الولد الزعلان عصرية اليوم ، عليّ الثاني ، يعبىء بفمه الغضّ مصّاصة بخّاخ ، من الصنف الذي يستعمله مقطوعو النفَس . ألرسمة تكاد تتكلم ، والطفل الحلو يريد أن يصيح بك : إطفىء سيجارتك يا بابا ، قبل أن تنطفىء أنفاسي . على الوجه الثاني من الباكيت ، ثمة من يحذّركَ بأنَّ جسدك ، قد يُكرَهْ على استضافة وجع السرطان الأكول ، إذا ما استمررتَ على شفط مدخنة التبغ هذه ، توطئة لموتٍ غيرِ رحيم . في منظر الليلة ، انزرعتْ بناية مدرسة ابتدائية عتيقة ، بخاصرة جبل اللويبدة ، من صوب العبدلي . إسم المدرسة هو ” بلاط الشهداء ” وهذا المسمى الموجع ، أعادني فوراً ، إلى مدرسة كانت قائمة ببغداد ، وتشيل واجهتها ، الإسم نفسه ، قبل أن يزورها صاروخ إيراني رجيم ، ويهرس أطفالها وطابوقها وحروفها الغضّة . صاروخ ” سكود ” الإيراني ، كان صاروخاً قومياً ، مهدى من سوريا ، وقيل أيضاً ، أنه صاروخ ثوريّ من كوريا الشمالية . لا توجد سلعة على الأرض ، مثل السكائر ، ينتجها معمل ويسوّقها إليك ، ويكتب على أغلفتها الملونة ، تحذيراً شديد القوة ، من أنك شخص صار السرطان منه ، أقرب من حبل الرقبة والوريد . مصانع إنتاج وبيع التبغ المخمّر والمحروق والمنكّه ، صارت تتفنن في لصق صور مرعبة فوق علب الدخان ، تحذر وترعد وتزبد بالنصيحة التي هي أحسن . قلبٌ ملونٌ بزرقة محروقة ، وكبد معطوب ، ورئة منخولة . أرقام وسائط الإتصال والإشهار ، ومنها المعلنة من على شاشات التلفزيونات ، وصدور الجرائد ، وخواصر المجلات ، وثنياتها المبهجات ، تزودك بحقائق كاسرة ، منها أن عدد قتلى التدخين ، ربما صار أكبر من عديد قتلى الحروب ، وحوادث الطرقات . أخصائيون علماء عارفون ، يحصون لك كلفة كلّ سيكارة تشفطها ، على فاتورة سنين عمرك . ستكتشف أن جلَّ الناس المدخّنة ، إنما تدخن ، ليس لأنّ الفعل يسدّ حاجة بايولوجية ملحاحة ، بل الأمر لا يتجاوز مفهوم العادة ، أو الطقس في أرحم توصيف . قصص القوم المتورطين المصّاصين البصّاصين الشمّامين ، تكاد تكون متشابهة ، فواحدٌ – وقد تكون واحدة – أراد لفتَ نظر بنت الجيران ، فطيّر لها ، نَفَسَ فحولة في الهواء ، وثانٍ شاف شفتَي نادية لطفي ، وهما تتبللان وترتعشان ، من سلطان سيكارة رشدي أباظة ، وثالث دلفَ إلى مقهى الغرباء ، فثقّبَتْهُ العيون من كلّ جهاته ، فاستلّ سيكارة وأشعلها ، فصار دخانها صحبة حركة اليد ، مثل ساتر معركة ، ورابعة دخلتْ حانة الأدباء ، وتيقنت أن ليس بمقدورها إنتاج قصيدة نثر واحدة ، إلّا بمصّة مدخنة ، مسراها الحلق والبلعوم ، ومزفرها الخشم المفتوح على منخرين أفنصين . في السطر الرابع من مكتوبي هذا ، كنتُ هشّمتُ باكيت سكائري ، وجعلته شَذَراً كما عصفٍ معصوف ، والآن أراني مزروعاً قدّام سلة الزبل ، أوزع نظراتي الجائعة ، على كل أرض الواقعة ، وثمة عقب سيكارة ، كان فلت من بين هرسة الأصابع . عقب بتبغ قليل ، لن يأكل من عمر قلبي ، سوى خمس ثوانٍ فائضات . صباحكم سكّر ، مع شدّة نابتة فوق الكاف !!
[email protected]