4 ديسمبر، 2024 12:05 م
Search
Close this search box.

سيّدةُ المقبرة

ما زلتُ أذكر عشقكِ للزهور، وكيفَ كنتِ تتبخّرينَ بعبيرها وهو ينساب كأحلامٍ تسكن روحكِ، فزرعت حول قبرك ألوانًا،كأنها قصائد خالدة، تكتب نفسها في حضرة الموت. وما زلت للان اتذكر بأنكِ تخافينَ الظلامَ فعلقتُ فوقَ قبركِ قَبسًا مِن روحي، نورٌ يختطفُ ظلمةَ الليل، لأحميكِ مِن قسوةِ الفراق، وأمنع الرياح أنْ تجرح هدوءكِ الأبديّ . وما زلتُ أيضاً أتذكرُ جيداً بأنكِ لا تحبذينَ ثرثرةَ النساء فبقيتُ بقربكِ أمنع أية امرأة أن تتجرأ وتفزز سكونَ جسدكِ الأسطوريّ ، وما زلتُ أيضاً أتذكرُ كيفَ بكيتِ مثلَ طفلٍ يتيمٍ حينَ عضّتكِ نملةٌ صغيرة، فقررتُ أن أخادعَ جميعَ نمل المقبرة وأعدُّ لها الطعام بعيداً عنكِ . لكنني للآنَ أتساءلُ معَ نفسي : لماذا ظلَّ أولاد الدفان ( سيد نور )* يشتكونَ جميعهم منكِ وأنتِ ترددين ليلَ نهار قصائدنا المشتركة؟! ولماذا للآنَ ظلَّ الزائرون لمرقدِ (الإمام علي)* يتبركونَ بقبركِ وصارة فريضةً عليهم أن يزوروكِ وأنتِ لاهيةً عن الجميع في عالمٍ من الذكريات ؟! ولماذا الطيورُ التي هجرتْ مراقدَ المتوفين عادتْ تُعششُ بينَ قبورهم مِنْ جديدٍ تغني لأرواح غيّبها القدر؟! ولماذا الصمتُ الذي لفَّ المكان عادتْ تشقّهُ تراتيل الصالحين وهم يتحلّقونَ حولَ مزاركِ المبارك يلهجونَ بذكرِ الله؟! ولماذا جميع العشاق الذين فقدوا عشيقاتهم اثناء الحرب بقوا يتمسّحونَ بتربتكِ العطرة فأصبحتْ ملاذاً لهم كلّما مرّوا واستنشقوا عطرَ حكايتكِ ؟!

لكنني حين استيقظتُ، تلاشتْ معالم الزمن، ولا أدري أينَ يستقرُ قبركِ؟! أفي وادي السلام*، حيث الأرواح ترفرفُ في سكون؟ أم في أعماق قلبي، حيث تكتظُّ الذكريات وتغفو الآلام؟ ولا أدري ايضاً كيف تحولتِ، كأغنية تعزف في أروقة الغياب، تُنسج من خيوط الحزن والأمل، تسكن في كل زهرة تفتّحُ، وفي كلَّ خيطِ نور يشرقُ مِن بين الظلال؟ كلما تراءتْ لي أشعة الشمس، شعرتُ بكِ، كحلمٍ متجذرٍ في الذاكرة، يستعيدُ أنفاسهُ بين الهمساتِ والألوان، وكأنكِ تراقصينَ كلَّ ما حولكِ في خفّةِ، بينما تظلّ روحكَ حاضرةً، تنبضُ في صميمِ الوجود.

 

* سيد نور : من أشهر واقدم الدفّانين في مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف .

* الإمام علي :هو علي بن ابي طالب المدفون في النجف الأشرف وبقربهِ مقبرة وادي السلام .

* وادي السلام : فيه أكبر مقبرة في العراق , يقع في محافظة النجف الاشرف .

أحدث المقالات