في البت بأمر أو الحكم عليه أو إبداء الرأي فيه، لابد أن تكون هناك نقاط مشتركة، تشكل -مجتمعة- نقطة المثابة التي ننطلق منها ليكون البت صحيحا، والحكم عادلا، والرأي سديدا. فعلى سبيل المثال لو أردنا تحكيم شخص في أمر ما، او نطلب تقييمه لشخص ما، فان اول شرط ينبغي توافره فيه هو العدل، وتندرج تحت مفردة العدل صفات: الحيادية والإنصاف والجرأة، وتنأى عنها مصطلحات الانحياز والغبن والجبن، وبذا يكون الحكم بالنتيجة أقرب ما يكون الى العدل.
في بلد الحضارات والخيرات والنفط، كانت مفردات الحيادية والإنصاف مغيبة عقودا خلت، في وقت كانت تحل محلها أضدادها، الى ان اشرقت شمس الحرية التي كنا نظن انها غير قابلة للكسوف، وبها انطلقت الحريات بجميع اشكالها واصنافها وأحجامها، مثل حرية التعبير عن الراي وحرية النقد وحرية النشر، وغيرها من نعم الديمقراطية، الأمر الذي أطلق العنان للسان الشعراء والكتاب والنقاد في البوح بما يختلج بخواطرهم من آمال، وما يعتمل بنفوسهم من آلام، وكان بذلك متنفسا لهم. فمنهم من أعاد توثيق احداث كان مكمما عن البوح بها، حتى مضى على فراقه إياها سنين طوال، وانقلبت أفراحها الى أتراح وبهجتها الى أحزان، وماكان بها مشرقا بهيجا صار من دونها حالكا مكفهرا، فأرخها كذكريات للتاريخ، كما يقول النابغة الجعدي:
تذكرت والذكرى تهيج لذي الهوى
ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
ومنهم من وجد في الحرية ضالته بعد كبت خانق، ففُتحت قريحته في الإجهار والإعلان عن مسميات جماليات الحياة، ضاربا عرض الحائط ثوابت عديدة وقيما راسخة، فراح ينطق بمايهوى وما يعشق بالخط العريض، من دونما وجل من نقد، او مخافة لوم او خشية تقريع متمثلا بقول ابي نؤاس:
فبح باسم من تهوى ودعني من الكنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر
ومنهم من اتخذ لنفسه موضع الرقيب وموقع الناقد ومنصب المنبـِّه والمحذِّر، فأصبح رقيبا على أفعال معيته وردودها، ممن عاشوا معه كسوف الشمس الطويل في تلك العقود، وناقدا لتصحيح من يتخبط في خطوه، ومقوما لاعوجاج من شذ عن القواعد المعتادة في المجتمع، وقطعا ماكان انطلاق هؤلاء بهذا الاندفاع، إلا بعد ان فككت الحرية كبولهم وأعتقتهم من أغلال الماضي.
أعود لما بدأت به حديثي، لعلني أكون عادلا في الحكم وسديدا بإبداء الرأي وأقول: رغم ما كتب الكتاب -وأنا أبسطهم- عن هفوات وسلبيات وأخطاء حدثت في زمن الحرية في العراق كان ابطالها ساسة وقادة ومسؤولين، إلا ان هناك صالحات وتضحيات وإيجابيات من الإنصاف ان تكون نصب اعيننا، وهناك في بنية الدولة العراقية الحديثة -رغم مانذكره من ثغرات- قوة وتحدٍ لظروف كانت قاهرة وهي في فترة نقاهتها وإن طالت، تواكبها ظروف تكالب الأشرار في صنعها بكل فنون الزيف والمكر والرعب والإرهاب، ولم يذكر التاريخ ان بلدا آخر على مر العصور قد تجاوز ماتجاوزه العراق من محن، فلو قيل الحق يجب ان يقال بأكمله، فمع كثرة السلبيات التي تعج بها مؤسسات البلاد، هناك ضياء من إيجابيات هنا وهناك ولو أنه لايكاد يبين، إلا أنه يبشر أن الكوة التي تصدره ستكبر وتكبر، حتى يأتي يوم تغطي إيجابيات الشعاع كل سلبيات الظلام، لكن تبقى قوة السلسلة تقاس بأضعف حلقاتها.
[email protected]