23 نوفمبر، 2024 3:45 ص
Search
Close this search box.

سيمياء الريح في ديوان (نار القطرب) للشاعر العراقي حسين عبد اللطيف

سيمياء الريح في ديوان (نار القطرب) للشاعر العراقي حسين عبد اللطيف

كيف يتعامل شاعر مثل (حسين عبد اللطيف) مع ملفوظ معروف ومتداول كالريح؟ وهل الريح في مدينة كالبصرة/ مدينة الشاعر/ هي نفسها بصفيرها وعويلها في المدن الأخرى؟ إن هذه الأسئلة تقودنا إلى أسئلة أخرى منها كيف يمكننا قراءة ملفوظ ما في نصوص ديوان من دون أن نجري عليها عزلا كمن يعزل حبات الرمل عن حبات الذهب؟ في الواقع أن عزلا كهذا للكلمة سياقيا سيحول الكلمات/ الملفوظات/ جميعها إلى حبات من الرمل، لماذا؟ لان الكلمة تستنجد بما يجاورها من الكلمات لتصل إلى المعاني السامية، وهذا يعني إن للنظم دورا كبيرا في إعطاء المعنى أو تخليقه وهذا ما نبه إليه “الجرجاني” في نظريته المشهورة (نظرية النظم(1)، لكننا  في الواقع نعيش في عالم مملوء بالعلامات، وخير من يعبر عن هذه العلامات هي اللغة، واللغة تمثل خزينا من العلامات المخزونة في العقل الجمعي للمتكلمين(2)، وتتأثر العلامة اللغوية بجمهور المتكلمين والزمن حيث تندثر لتتكون علامة أو إشارة لغوية أخرى(3).
      وقد أكد العالم السويسري/ فردينان دي سوسير/ ذلك وقال باعتباطية العلاقة بين قسيميها الدال والمدلول(4)، إلا أنها علامة رمزية عند/بيرس/ العالم الأمريكي المعروف(5)، وهذا يعني إن الإعتباطية السوسيرية هي الرمزية البيرسية على أساس أن العلامة تعد رمزا إذا كان ما تمثله ملازما لها عرفا، وفي الواقع أن ما نعمله سيكون ضمن ما يسمى بالتداول أو التداولية(6).
        إن الاتجاه الشكلي للتداول مرتبط بسياق التلفظ(7)، وهنا لا بد من التفريق بين اللغة العلمية لأنها تعبر عن حقيقة واحدة لكل المقابلات(8)، ولكن اللغة في مستوى التخاطب ستكون حقيقة متشظية بالنسبة للمقابلات المختلفة، وهذا يعني كون الكلمة نمطا عندما تمتلك مقابلات متعددة، وهنا لا بد من الإشارة إليها أي/ الكلمة/ بوصفها نمطا أو الإشارة إليها بوصفها مقابلا في نص ما، وبوصف الكلمة علامة لغوية فإن التداولية بحسب/ فرانسواز أرمينكو/ تهتم بكل ما هو وظيفة لمقابل علامة ما(9).
     ولكن هنالك المؤول، فالأول عند /بيرس/ عنصرا مكونا للعلامة نفسها بينما يعد الثاني فردا تجريبيا(10)، وهنا يمكن أن نضع في ذهننا عبارة/  برتراند رسل/ التي تقول بإن اللغة تشبه المتفجرات(11)، وفي الواقع إن اللغة تمثل حقل ألغام وإن كل كلمة فيها يمثل لغماً لسانيأ، والنطق في واقعه يشابه وضع القدم على هذا اللغم مما يؤدي إلى انفجار يصاحبه صوت مدوّي ونار وشظايا وبالتالي فاللغة الشعرية في واقعها لغة خطيرة وذلك بحكم كون الكلمات فيها يمكن أن تقود إلى سلسلة من الدلالات وهذا يشابه سلسلة من الانفجارات غير المحسوبة، إن التقعيد للشعرية يتطلب التفريق بين الموضوع والأثر(12)، ولا شك فاللغة تمثل وسيطا بين الموضوع والأثر الذي يكرره الملفوظ في أذن المتلقي، إذن فإن القول بحسب/ ديكروا/ يشير إلى (مكون قال، وليس فقط إلى منتج قال بابتذال)(13)، وهذا قد يكون منطبقا على الشعر في وجه من وجوهه، وهنا ستنطوي تعدد القراءات لنص ما على محاولة خلاقة وغير مسبوقة تقوم على رسم ومن ثم تأشير خارطة نصية للآثار العنيفة التي يتركها الملفوظ باعتباره لحظة أخرى يجب اعتبارها في تأويل الكلام الملفوظ الذي يشتمل عليه النص الشعري.
       إن المهاد النظري أعلاه نجده ملائما كمدخل لمقاربتنا الحالية حول سيمياء ملفوظ/ الريح/ في بعض نصوص ديوان/ نار القطرب/(14) للشاعر العراقي المعروف “حسين عبد اللطيف”، ورغم أن هذه المقاربة تريد أو تحاول الإمساك بالدلالات المختلفة لملفوظ الريح، إلا أنها تهدف الوصول إلى ما هو أبعد من ذلك وهو تأشير الملفوظ كنمط أو كمقابل لان هذا التأشير قد يكشف لنا شيئا من أسرار الشعرية الحديثة وهذا ما سنبينه من خلال مقاربتنا هذه.
       في نص منطقة (ص7) يرد ملفوظ الريح ضمن سلسلة من الجمل الإخبارية:-
 / يستيقظ أطفالٌ في العشب/ يتوقد قنديل البيت/ لهب يتلولب فوق الأشجار/ شجر يتهجد../ ريح الشرق تصلي/
    إن عزل مقاطع القصيدة بعضها عن بعض الآخر يقودنا إلى صعوبة الإمساك بدلالة الريح هنا وذلك لأن القصيدة وحدة واحدة وفيها يبحث الشاعر عن النقطة:
/ وأبحث عن نقطة / في أرض ما/ يتوحد فيها الكون/
     إن الشاعر يرسم طقوسا معينة للوصول إلى النقطة تتبدى على شكل صور سريالية مثل استيقاظ الأطفال وتوقد قنديل البيت وتلولب اللهب وتهجد الشجر وأخيرا صلاة ريح الشرق، إن الريح كملفوظ يحيل إلى شخص متعبد يؤدي مراسيم الصلاة، ولكن أنى للريح أن تصلي،  أتتمثل في مخيلتنا كرجل ساجد أم أن صوت صفيرها يومئ للمتلقي بصوت صلوات رجل يصلي، وهذا يعني إن الأثر الذي تتركه الجملة يخلق عدة دلالات يتركها ملفوظ الريح عند المتلقي ومن هنا يأتي ثراؤها الدلالي فالريح هنا تمثل نمطا له عدة تقابلات، أي إنها حقيقة متشظية للمقابلات المختلفة.
      في نص (الريح لا تعرف القراءة)  بوصفه ثريا رئيسة(12) تندرج أربعة نصوص بعتبات فرعية أولها عتبة ( ازهرار) حيث نقرأ فيه:
 / بينما / أتلمس خاتم أيامي في الوحدة، تقبل ريح / وتغادر ريح،

 إن دلالة الريح هنا تحيل إلى معنى يرفضه السياق، فالشاعر يتكلم عن العزلة وما يراوده فيها من ظنون وأفكار، إن مجيء هذه الظنون والأفكار ومغادرتها صور مجسمة مشابهة لهبوب الريح وتوقفها وإذ يستمر الشاعر بوصف وحدته وعزلته بصيغة/ ازهرار/ فهو يستعيد الازهرار كصنو لازدهار عزلته وانطفاء العمر وتهيؤ الروح لمغادرة الجسد لتهيم مع الغزلان:-

/ فأصبح/ رمل فوق الفودين/ رمل فوق الكتفين/ رمل فوق العتبة/ وبقايا ريح/ تتقرفص عند الباب/ وتهيم مع الغزلان – الريح/.
   في نص/ دون جدوى/ نجد ملفوظ الريح يشي بفراغ دامس وتعطل الآمال بل موتها، فالريح هنا صنو اللاجدوى وذلك لأن الشاعر وهو يمتحن العمر ويعض عليه بأسنان الرغبة والجهد فهو لا يحصد سوى قبض ريح، ولا شك إنها لمفارقة مرعبة أن نقدم العمر ورودا ومصابيح، ولا يطرق الباب سوى الريح، أية عزلة هذه التي يواجهها الشاعر بل أية غربة يقودنا إليها:-
/ ها نحن نجوب إقليم المدن/ بورود/ من صنع الأيدي../ ومصابيح/ ها نحن على الأبواب/ نصيح./ الريح/ الريح/ الريح/ إلى/ الريح.
      إذن فملفوظ الريح هنا يحيل لتقابل واحد هو اللاجدوى لعزلته، وهذا ما ينطبق على نص (ازهرار) أيضا فالريح يحيل لتقابل واحد ليس أكثر.
      في نص ” الريح لا تعرف القراءة” وهي الثريا التي اختارها الشاعر لتكون ثريا رئيسة لهذه النصوص الأربعة كما أسلفنا، وعندما تكون الريح لا تعرف القراءة فهي ستكون قارئا أعمى، وحتى يضع الشاعر نفسه في المكان الصحيح كان عليه أن يضع عدة استراتيجيات كي يتعامل مع الريح بوصفها ملفوظاً يمكن أن ينقل محمولا معينا  للمتلقي، إن دلالة الريح تشي بحقيقة أن الحياة لا تعرف أبناءها الحقيقيين، فهي تعطي بسخاء لمن لا يستحق وتغل يدها إلى عنقها مع أبنائها الأبرار، يقول الشاعر:-
 / هي الريح/ تمضي/ تجوب القفار/ وتبقى/ تجوب/ تجوب/ كئيبة/ فتحت/ إليها بقلبي مزارا/ كونيا رحيبا/ ولكنها الريح.. تأتي/ لتنفث فيّ أساها/ وتبكي/ كبوم.. على خربات البيوت/.
   إن الريح هي صنو للحياة فهي تائهة مفجوعة ومنذهلة، وإذ يفتح الشاعر لها مزاراً في قلبه فهو لن يحصد منها سوى البكاء والعويل، فالريح كدلالة هي امرأة لا تعرف سوى التفجع والتشكي تحت قبب المزارات، وهل بنيت المزارات إلا للبكاء والعويل؟ أم أنها بنيت لتقديم النذور عندما تتحقق الأماني وطلبات النفوس؟ ولكن من يطلب ممن؟هل الشاعر هو الذي يطلب من الحياة أم هل الحياة هي التي تطلب من الشاعر؟ إنها مفارقة مذهلة هذه التي يرسمها يراع الشاعر في هذا النص، حتى إن الرياح تتأسى عليه:-
/ كأني سمعت الرياح تقول: أقلبك زهرة دفلى/ وجرح/ ونجم يفور ولا يتفتح صبح/،
 إن هذه الحقيقة التي نقلتها الرياح للشاعر قد صدمته وجعلته يبكي كثيرا لذا فالشاعر حين ييأس من الرياح يخبرنا بأنها  جاهلة لا تعرف القراءة وغير معنية بما تفعل أي هي الموت بكل قساوته وجبروته عندما تفعل ما تفعل غير مبالية بما تتركه من آثار على المحيطين بمن ستميته أي إنها  معادل نفسي وجسدي للموت:-
/ ولكنك الموت.. لا تعرفين القراءة/
 ليس هذا فقط بل جعلها هائمة على وجهها بدون دليل ولا هدف:-
/ إذن / فلتظلي بلا وجهة أو قرار/
 وكذلك فإنه قد هدم ما قد بناه لها في قلبه من مزار:-
 وتبقى تجوب/ تجوب كئيبة/ وما من مزار/
     إن الريح بوصفها ملفوظا في هذا النص يمكن تأشيرها بوصفها نمطا لأنها تنطوي على ثراء دلالي للمقابلات المختلفة.
    في نص (ميتادور)(ص17) يظهر البحر بوصفه ثيمة رئيسة في ثناياه ولكن ملفوظ البحر في واقعه دال لمدلول آخر غير مدلوله القاموسي، حيث يجمع بين فكرتين هما البحر بمعناه القاموسي والشاعر بوصفه فكرة مادية متجسدة بشخصية أو (أنا الشاعر)، فلكل إنسان اضطراباته وإحساساته المرهفة، إذن فالبحر ينزاح إلى معنى أعمق هو الشاعر نفسه، ولكن هذا الانزياح ينطوي على سلسلة من الدلالات/ الانفجارات/ التي ترسم لوحة متشظية بألوانها وأجزائها معتمدة على صيغة الكولاج أو اللصق حيث نقرأ:-
/ البحر.. مثل الريح/البحر.. لا يستريح/ البحر.. في الساحة قرن من القصدير../ ثور جريح/
      إن البحر والريح يلتقيان في بؤرة واحدة هي أنهما لا يستريحان ، فهما في حركة دائبة، ولكن جسد الشاعر يموت ويذهب إلى العدم لذا فأن الشاعر (لوركا) عندما يقول : ” حتى البحر يموت” وهو ما استعاره الشاعر منه في هذا النص إنما  يمثل صورة رسمها النص لحياة الشاعر باضطرابها وفورانها وصولا لتلاشيها ثم أفولها:-
/ البحر.. ظل شاحب الألوان.. البحر..ها.. قد أطبقت أجفانه/ البحر… عبر الآن.. لا يستريح/
يبدو واضحا من أعلاه إن ملفوظ الريح يحيل إلى مقابل واحد ولا يمثل نمطا.
     وأخيرا في نص/ الزبير/ نقرأ عن مدينة تقف في مخيلته بصورة باهرة حيث يقول:-
/ محنية في الرمل/ تبحث عن خاتم../ صبارها المر/ يرن/ أو يلهث../ بعيرها يرغو../ وتعول الريح/ لا تكشف الغيمة/ عن ساقها/ المستحيل/ لا باب / دون الريح/ إلا العويل/ ماذا وراء الريح.. غير العويل/.
       حيث يرسم الشاعر هنا صورة لمدينة منفتحة على الصحراء، وهي في الواقع باب نحو صحراء مترامية الأطراف، ويستعير الشاعر صورة حسناء محنية في الرمل تبحث عن خاتمها الضائع، كما أن صبارها وبعيرها هما أساور وقلائد تتجمل بها ولها صليل في كفوفها وجيدها، وهنالك أيضا الريح المعولة والغيمة التي لا تكشف عن ساقها، إن الريح والغيمة إزاء مدينة حسناء كالزبير حسناوان في موقف لا تحسدان عليه فالغيمة يتملكها الخوف من أن تكشف عن ساقها كما أن الريح ليس لها إلا العويل والبكاء، إن  يراع الشاعر ترسم صورا جميلة فهناك صراع ينشأ بين مدينة نائمة بدلال بين أحضان الرمل مع كل من الرياح والغيوم، إن جمال المدينة قد أبكى الريح وأخاف الغيمة من أن تكشف عن ساقها.
    إن لغة الشاعر إذ تبني جسورا بين النص والمتلقي فهي تخلق وتترك آثارا كبيرة في المتلقي أو القارئ، وهنا نجد أن اللغة الشعرية هي في حد ذاتها تعامل غير اعتيادي مع الملفوظات، إنها إحالة أو انتقال مما هو متعارف عليه أو متداول في محيط الشاعر ونقله إلى إحداثيات في مستوى آخر،  فالشاعر يجد أن المدينة حسناء لا تختلف عن أية حسناء كانت قد تماهت معها نفسه والفكرة ذاتها انسحبت على كل من الغيمة والريح، إذن فالشاعر يقوم بتهشيم العلامة اللغوية وتغريب الدوال عن مداليلها، حيث تنزاح المداليل أو الأفكار التي تعشقها نفسه لتعبر عن أفكار أخرى أو مداليل أخرى، كما حدث في إنزياح مدلول النساء إلى المدينة والريح الغيمة، ولكن كل هذا يحدث بصورة إيحائية وغير مباشرة على مستوى الدال اللغوي بل إن النص يعمل على تشكيل قارئه أو قارئ له القدرة على ملئ البياضات ووصل المقطوع لخلق المعنى المغيب في ثنايا النص، وهذا يعني إن الشعر ينشأ عند الشاعر (حسين عبد اللطيف )نتيجة لانفجارات متلاحقة ومتسلسلة يخلقها السياق بما يتضمنه من جمل تنطوي على ملفوظات في نسيج النص، وهذا يحدث عندما يكون الملفوظ نمطا وهنا سيكون من اليسير أن نتوصل إلى المعنى أو المعاني الكامنة في النص، وحسب / آيزر / فان التفاعل بين بنية النص والمتلقي هي الأساس في قراءة العمل الأدبي لان المعنى يكمن في رد فعل القارئ، في النقد الحديث يكاد القارئ يغرق في التأويل وصناعة المعاني وتخليقها تعاضديا مع المؤلف من خلال فعل القراءة الخلاق إلا أن لهذا الفعل وظيفة أخرى  هي الكشف عن أسرار الشعرية وقوانينها وهذا كان جزءا قد يكون غير منظور في مقاربتنا البسيطة هذه حول ملفوظ الريح في ديوان (نار القطرب).

الهوامش والمصادر

1- نظرية النظم – د. حاتم الضامن – الموسوعة الصغيرة-عدد 47- دار الحرية للطباعة بغداد ص47.
2- علم اللغة العام – فردينان دي سوسور- ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز- دار آفاق الصحافة والنشر- ص117.
3- نفسه – ص97.
4- نفسه ص91.
5- القارئ في الحكاية- أمبرتو إيكو – ترجمة. إنطوان أبو زيد- المركز الثقافي العربي –ص54.
6- المقاربة التداولية – فرانسواز أرمينكو – ترجمة د.سعيد علوش – مركز الإنماء القومي – ص19.
7- نفسه ص 18.
8- نفسه ص19.
9- نفسه ص19.
10- نفسه ص10.
11- نفسه ص60.
12- نفسه ص58.
13- نفسه ص58.
14-  ديوان نار القطرب – حسين عبد اللطيف – دار الشؤون الثقافية – بغداد – 1994.
15- المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية – وليم راي – ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز – دار المأمون – ص61.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات