18 ديسمبر، 2024 8:06 م

سيرةٌ ذاتيةٌ بلسان شاعرٍ

سيرةٌ ذاتيةٌ بلسان شاعرٍ

أطلق عبد الرزاق الربيعي صرخة الولادة قبل أن أُولد بنحو سنتين، وكان بيننا طفلٌ وُلد فاقداً للحياة : هكذا أخبرتنا ـ بعد الفطام ـ أُمي المتشحة بالمحبة والأسى، وقد عبر عن حالتها عبد الرزاق  في قصيدةٍ يقول فيها : (عند التنور /تغني أُمي أُغنيةً/ لا يفهمها إلا الموتى)!

هل كان ذلك الطفل السُقط نبوءةً مبكرةً لما سيحدث لعائلتنا لاحقاً من فواجع وفقداناتٍ وعذاباتٍ ستلقي بظلالها علينا جميعاً برغم لجوئنا إلى مباهج المعرفة، والعلم، الأدب، والسفر التي ربما وجدنا فيها شيئاً من  العزاء ؟

لم تتسنَ لي معرفة الكيفية التي استقبل بها عبد الرزاق عالم الدنيا ، وهل كانت تتناسب مع كينونته فيما بعد طفلاً خجولاً، حساساً، محكوماً عليه بالطفولة والبراءة والشعر مدى الحياة !

يقول عبد الرزاق في ذلك :

(ذات يوم طلبتْ مني طفلةٌ نصيحة أكتبها في دفترها الصغير فكتبتُ : أنصحكِ بألا تكرري خطأي وتكبري ..أرجوكِ!)

وفي موضعٍ آخر يقول :

(الطفولة تركت بصمتها على كتاباتي إلى اليوم لتكون ملمحاً جمالياً لا عبئاً على كاهل نصي).

 لكنَّ صداقتي مع عبد الرزاق سبقت صفته شقيقاً ورفيقاً  في رحلة الألم والقلم !

 تعلمنا من أبينا كيف ننزع الأشواك، ونزرع القمح والأمل.

غذتنا أُمنا بلبن المحبة، وأن نطرد الأحقاد من قلوبنا.

دربتنا جدتنا الأولى من جهة الأب على فن السرد بحكاياتٍ مدهشة ٍكانت تنقلنا إلى عوالم سحرية ملونة، وتعلمنا من جدتنا الثانية من جهة الأم :كيف نُدخل السرور على الآخرين بالقول والفعل !

رافقتُ عبد الرزاق يومياً ـ وكنتُ محظوظاً بذلك ـ مدة الطفولة والصبا والشباب ومطلع الرجولة  أكثر من ثلاثة عقود، كانت فيها أُبوته الكبيرة، وحكمته المبكرة تفوق عمره بكثير.

أخذ عبد الرزاق بيدنا ونحنُ أطفال نحب اللهو إلى مقر مجلة (مجلتي) مطلع السبعينيات، فكنا مبهورين بعالم الكبار من الرسامين والكتاب والشعراء الذين بدوا لنا عمالقة، وكانت هذه الزيارة محطةً مهمةً من محطات رسم الطريق.

لم يتخل عبد الرزاق عن تشجيعنا على القراءة، وتصحيح مسارنا، وتحفيزنا على المحاولة، وخوض التجربة، والابتكار.

عشنا تحت سقفٍ واحد، ولم تفرقنا الحروب، ولا الحصارات، ولا البلاد البعيدة.

هو لم ينقطع عنا حتى بعد هجرته الطويلة مطلع شهر شباط سنة ألف وتسع مئة وأربع وتسعين، وكان يحلو له أن يؤرخ رسائله بعد كل سنة بتوقيع (السنة الأولى أو الثانية، أو السادسة عشرة للهجرة )!

وحين زارنا أول مرة بعد هجرته الطويلة كتبتُ مقالاً وَّثقت فيه مشاعرنا في هذه الزيارة ومما ذكرته :

كان يوم الأحد نهاية آذار سنة ألفين وعشر عاطفياً  بامتياز؛ إذ شهد فندق المنصور ميليا ببغداد ظهيرة هذا اليوم لقاء عائلتي بشقيقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي الذي غادرنا مهاجراً يوم الأول من شباط سنة ألف وتسع مئة وأربع وتسعين ميلادية الى عمّان ليبدأ رحلته التكاملية الابداعية وليكتشف معاني أخرى لمفاهيم مثل (الوطن) و(الكرامة) و(الحرية)، وغيرها متنقلاً بين عمّان وصنعاء وسلطنة عمان، زاهداً بالرتابة، وحياة الدعة والألقاب ، ملتحفاً بالنبل والكرم، وقد عرض نفسه صحفياً ناجحاً، ومسرحياً مهماً، وشاعراً متألقاً، ولكنه ظل محتفظاً بميزته الأروع طفلاً كبيراً.

وعلى مدار السنوات الماضية من هجرته حدثت تغييرات كبيرة في العائلة.. رحل الوالدان الى السماء، ولحقت بهما الجدة، وتزوج الأخوة والأخوات،  وظهر جيل جديد يمكن أن يدعي أنَّه جيل يعيش أفضل العصور التكنولوجية والترفيهية، يؤمن بالمشاركة في الحروب الإلكترونية فقط ويضمن عدم مراجعة دائرة التجنيد لأغراض السوق العام!

الشيء اللافت في رحلة عبد الرزاق أنها شهدت استخدام جميع وسائل الإتصال من الطرق البدائية الى الحديثة؛ فقد استعملنا الرسائل البريدية العادية، والهاتف الأرضي، والرسائل الشفوية، والرسائل الصوتية بأشرطة التسجيل ثمَّ بأشرطة الفيديو، ودخلنا الى عالم الإيميل، وكانت الرسائل الصوتية تسجل وتبث بيننا ثمَّ حدثت نقلة نوعية بدخول الهاتف المحمول، ثمَّ خدمة الهاتف عبر الانترنيت ثم الاتصال المباشر صوتاً وصورةً  وحين التقينا عبد الرزاق كان اللقاء يسجل عبر كاميرات متطورة HD، وبكاميرات الهواتف المحمولة مما يكشف مدى التطور العملاق التي شهده العالم، وقد كشف أخي عن ذهوله للعالم العاطفي الذي عاشه بين أهله ومحبيه وقد عكس هذا الثروة الحقيقية للعراق بوصفه منبع الحضارة العاطفية !

يُسأل الشاعر عبد الرزاق الربيعي في حوارٍ معه :لماذا نحبّ؟

يجيب :(لأنّ الحب بكل أنواعه، يجعلنا نضيء، نتوهّج، نندفع لتكون حياتنا  أفضل، لنستمر، لهذا نحافظ دائماً على أن نحب، ومن دون الحب لا يمكن أن نطيق العيش يوماً واحداً) .

وفي حوارٍ آخر يقول :

( الحبّ طاقةٌ خلّاقةٌ، تمنح الشاعر والكاتب دافعيةً ليس فقط للكتابة، بل للحياة، وتبقى المرأة مصدراً مهمّاً من مصادر الإلهام، أمّا الحبّ كتجربة إنسانية، فهناك خلط بينه وبين الإعجاب، والألفة، والتعود، الحبّ شيء مختلف، ذوبان كامل في الآخر، وهذا الذوبان يحتاج إلى نكران ذات، وفطرة نقية خالية من الشوائب، والمصالح، والغايات، وإيمان مطلق، وقد قيل لإعرابية: ما الحب؟ قالت: جلَّ عن أن يُسمَّى، ودقَّ عن أن يُوصف، فهو كامن كمون النار في الجمر، إنْ قدحته أوْرَى، وإن تركته توارى”،  وهو في عصرنا الكثير الجنوح للمادّة، لا للروح، قليل، قليل جداً !، ونادر ووفق هذا المقياس، فمعظم التجارب التي مررت بها تخرج من دائرة الحبّ).

أظنُ أنَّ هذا المفتاح هو أحد مفاتيح  الدخول إلى عوالم عبد الرزاق الربيعي  الإنسان، والشاعر، والكاتب، وسر من أسرار تمتعه بمحبةٍ واسعةٍ من شرائح المجتمع كافة، كما أنَّها مدخل جذاب، ومناسب لمعرفة شخصيته.

لا يخفي عبد الرزاق  عمن يعرفه شيئاً يتعلق بحياته بل يفصح في  أحد الحوارات عن بعض مفاتيح شخصيته حين يُسأل عن سر تعلقه بزوجته الراحلة عزّة الحارثي (رحمها الله) فيقول :

(هذا السؤال يجيب عنه، مَنْ عرفها من أصدقائي، وببساطة، (عزّة) امرأةٌ ذكيةٌ عرفتْ أهمّ مفاتيحي الشخصيّة، وهي : الطفولة، والكتابة، والأصدقاء، والسفر، وحبّ الفنون جميعاً ، فأعادت برمجة حياتها، وفق هذه المفاتيح، فأحبّت ما أحبّ، وتجنّبت ما أكره، واعتنت بي، كما تعتني بطفل لها، وآمنت بي، وقامت بترتيب أوراق حياتي، وتنظيمها، ومنحتني مساحةً واسعةً للقراءة، والكتابة، والحلم، والناس، والسفر، والحياة، ونظرت لعملي بقدسية، ففقدتُ بغيابها زوجة، وحبيبة، وصديقةً، وسنداً قوياً) .

نظرته للمرأة ليست عاديةً بل يجد فيها معادلاً موضوعياً للفقدانات والغياب في حياته فيقول

في حوارٍ له :

( حياتنا سلسلة من الغيابات الموجعة، غياب الطفولة المبكر، غياب أصدقاء في كهوف الظلام غياب أحباء في زهرة العمر، غياب أماكن نابتة في القلب، وهذه أقسى أنواع الغيابات التي تبحث عن صيغة للخروج إلى العالم عبر الكلمات فلن تجد ممراً سوى المرأة، لذلك أصبحت رمزاً مشخصاً لكل هذه الغيابات، وقد ساهم غيابها الموحش في تحمل وزر تلك الغيابات فحضورها تعويض، وغيابها فاجعة، وأيامنا على هذه الأرض سلسلة فواجع تبدأ بالمرأة وتنتهي بالحرب، هذه الفواجع المتلاحقة تركت أثرها  على نصوصنا، لذلك حمل ديواني الأول عنواناً مثل (إلحاقا بالموت السابق ) والثاني ( حداداً على ما تبقى ) واخترت للثالث (جنائز معلقة )، إذ إنَّ غياب المرأة هو رمز لتراكمات من الغياب).

يتحدث عن المكان الأول الذي احتضن هجرته فيقول :

(يعيدني سؤالك إلى المكان الأول الذي وطأت عتبته قدماي بعد مغادرتي بغداد في1-2-1994 بدعوة من ملتقى الفينيق حملها لي الفنان محمّد العامري حيث أقمت أمسيةً قدمها الصديق الشاعر علي الشلاه الذي كان نائبا للمدير العام، في ذلك المكان.

أمضينا العديد من الأوقات الجميلة بصحبة الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي الذي كانت صاحبة  الملتقى المرحومة سعاد دباح قد أفردت  له طاولة مدفوعة الطلبات من قبل دباح في تقليد لم يسبق أن عمله مقهى ثقافي وكان يتحلق حول البياتي الأدباء والفنانون وضيوف المملكة والإعلاميون، وقد ظلت الطاولة محجوزةِ للبياتي حتى بعد رحيله عن عمّان إلى دمشق ومن عالمنا إلى مقبرة ابن عربي !

ولا أبالغ إذا قلت : إنَّه ما مرّ أديب عربي خلال التسعينيات بعمّان إلا مَرَّ بالفينيق أو شارك بفعالية أقيمت به وكانت فعالياته تستقطب جمهوراً واسعاً حتى أنني شاركت بأمسية أقامها الملتقى على هامش مهرجان جرش عام1995 قدمها الشاعر علي الشلاه وكان معي في الأمسية الشعراء عدنان الصائغ وعريان السيد خلف وفضل خلف جبر وأمل الجبوري وخلال القراءة مددت بصري في الحضور، وفوجئت حين شاهدت الشاعر الكبير سميح القاسم يتابع الأمسية وقوفاً لعدم وجود كرسي فارغ، وظل يتابع الأمسية حتى نهايتها وهو أمر لفت نظر الصحافة فذكرته في عناوين صفحاتها الثقافية !

في ذلك المكان التقيت عدداً كبيراً من الشعراء والكتّاب من بينهم: محمود درويش، وسميح القاسم، وعز الدين المناصرة، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمد القيسي الذي كان له ركن خاص أيضاً ، يرتاده في النهار وذات يوم وصلت قبله فاحتللت المكان دون علم مني، فجاء وجلس بكل أدب في مكان آخر وظل مضطرباً حتى نبهني الأخ الشلاه فاعتذرت منه وتلقى اعتذاري بإبتسامة رقيقة.

ولم يكتف الملتقى بالأماسي الثقافية والمعارض التشكيلية حيث تجاوز ذلك إلى إقامة الملتقيات إذ أقام ملتقى الفينيق الشعري لأكثر من دورة ونقلنا تجربة نادي الطفولة التي أطلقتها ببغداد واهتممنا بالكثير من المواهب في الرسم والكتابة، وقدمت عروض مسرحية ولا ننسى تجربة الجدار الحر، وأصدر “الفينيق”  مطبوعاتٍ من بينها جريدة (الفينيق) الشهرية التي استقطبت كبار الشعراء العرب كسليمان العيسى، وعبد العزيز المقالح، وسميح القاسم، وعزالدين المناصرة وكنتُ مراسلاِ لها من صنعاء ومن ثمَّ من مسقط، وقد ظلت تصدر لسنوات عديدة وقد ساهم بالكتابة بها  صحفيون وأدباء أمثال: راشد عيسى، والدكتور محمد المقدادي، ومحمد طملية، وجعفر العقيلي وعلي السوداني، وآخرون وكانت سعاد دباح تنفق على الجريدة بسخاء و تبعث نسخاً للكثير من الأدباء العرب على عناوينهم البريدية دون أي مردود مادي سوى رغبة منها ومن الشباب الذين يقفون معهم في التحرير في خدمة الثقافة العربية، الفينيق يعني لي الكثير بخاصة إنَّه المكان الثقافي الأول الذي احتضنني وقدّمني للوسط الثقافي العربي وهو تجربة لا تتكرر إلا إنْ ظهرت امرأة محبة للثقافة والمثقفين ولا تفكر بالعائد المادي مثل الراحلة الكبيرة سعاد دباح).

أما عن استخدامه للرمز فيقول :

( إنَّ استعانة الشاعر الحديث بالرمز ليس هرباً ، بل هو إجراء فنّي، ضروري للارتفاع به جماليّاً ودلاليّاً، فاستخدام أي شاعر للرمز في تأثيث نصه، لا يعني أنه يضع على رأس المعنى طاقية إخفاء، بل لإغنائه وإثرائه وشحنه بطاقة تعبيريّة بهدف تنشيط الفعّاليّة الذهنيّة للمتلقي، وولوج عتبة العالم الكامن خلف الواقع للتعبير عن التجربة بصدق من خلال الرجوع إلى التاريخ والأساطير واستقاء هذه الرموز من منهلها العذب ،ومحاولة صياغة رموز شخصيّة قادرة على محاورة الذات والتفاعل مع التجربة، هذه الرموز سرعان ما تلفظ أنفاسها إنْ لم ينفخ فيها الشاعر شيئاً من روحه ،الرمز يمنح عمراً أطول للنص، وعمقاً لا بدَّ منه لضمان ديمومته وصموده وهو يقف في مواجهة أعاصير التسطيح التي من شأنها أن تلقيه في سلّة العادي واليومي).

يفصح عبد الرزاق عن أهمية جمع حواراته في كتابٍ واحدٍ .

يسأله الباحث محمود يونس السامرائي الذي درس شعره في رسالة ماجستير :

يقول السامرائي : (يعكف شقيقك الكاتب عليّ جبّار عطيّة على جمع حواراتك في كتاب، فما أهمية الحوارات في إضاءة التجربة؟

فيجيب الربيعي بالقول :أؤمن  أنّ كلّ ما يصدر عن الشاعر، والكاتب من رسائل، وأحاديث، ويوميات، جزء لا يتجزّأ من نتاجه الإبداعي، ومن شأنه أن يفتح الطريق للقرّاء، والباحثين، والدارسين لفتح مغالق نصوصه، وما استعصى منها على التحليل، والتفسير، والفحص النقدي، وكثيراً ما يطلب مني الدارسون الحوارات الثقافية التي أجريت معي، وهي كثيرة، ومتناثرة، لذا قام شقيقي علي بجمع أهمّها، وننوي نشرها بكتاب توفيراً للجهد، وتجد في الحوارات حيويةً، ومن هنا اختار فلاسفة اليونان القدماء المحاورات كطريقة للتعبير عن آرائهم، كما نجد في محاورات أفلاطون مع غيره من الفلاسفة، فالنص المكتوب ينغلق على اللحظة التي أنتج فيها النص، واكتمل) .

لقد كفانا عبد الرزاق في هذه الإجابة وغيرها عناء التقديم له ، وهل يحتاج إلى تقديم وقد أفصح عن نفسه وحياته الشعرية ومسيرته الأدبية في مؤلفاته المطبوعة، ولكن لابدَّ من مدخل إلى عوالم عبد الرزاق من خلال حواراته.

فعبد الرزاق عنده قلق مستمر هو قلق الكتابة يقول :

(قلق الكتابة أصبح جزءاً من تكويني الشخصي، وصرت أجد أيامي بلا هذا القلق ليست سوى ركام من الساعات الخاوية .. لهذا أستدعيه ـ هذا القلق ـ وأجلسه على كتف أعصابي حتى تفور وتنطلق شرارة لابدَّ منها لكتابة نصٍ جديدٍ).

ويضيف : (هذا التوتر الدائم والغياب الذهني عن المكان والتأزم النفسي جعلني أبتعد عن الأصدقاء وكلما داهمتني ، لكي أبقى سوياً في نظرهم لهذا أحاول أن أعيش يومي عندما أكون بينهم ـ كشخص حاضر معهم في تفاصيلهم وغالباً ما أضيق بهذا سريعاً فأهرب إلى البيت ، وإذا لم أتمكن من هذا أهرب إلى تحت جلدي، وانعكس هذا التوتر الدائم على صحتي كثيرة .. فقد أورثني تقرحاً في المعدة، وأعصاباً مشتعلةً .. ورأساً يبيض كل ثانية ..).

لا يرى الربيعي في الشاعر الحقيقي إلا كاسراً للأُطر التقليدية.. يقول في ذلك :

(الشاعر الحقيقي هو الذي يقيم في المستقبل ـ كما يتفق الجميع ـ وهو الذي يصنع الذائقة لذلك وجب عليه تحطيم حدودها التقليدية وأطرها البالية كشرط أول للنهوض بها لكي يكتسب نصه ( شرعيته ) مقاوماً عوامل التهميش  …)

عن سر اختياره مدينة مسقط للإقامة يقول :

(لا أعرف لماذا ( مسقط ) بالذات، هكذا قادتني أقدامي عام 1998 مع أنني على يقين أنك مادمت خارج مدينتك الأولى فكل المدن متشابهة، ولا فضل لمدينة على أخرى إلا بمقدار شبهها بمدينتك الأولى، ومسقط تذكرني بالبصرة –والجنوب العراقي بشكل عام – خصوصاً عند ميناء مطرح، لهذا أجد نفسي متطامنا معها نسبياً بالوقت الحاضر.

وعن علاقته بالدهشة يقول :

( الدهشة هي القاسم المشترك الأعظم الذي يجمع الشاعر والطفل، ويجلسهما على طاولة واحدة لذلك فالشاعر يحتفي بطفولة الأشياء وعندما يفقد الطفل دهشته فإنه يكبر، أمّا الشاعر فعندما يفقد دهشته فإنّه يموت فالدهشة زاد الشاعر في رحلته الطويلة لاختراق المجاهيل، والإجابة عن أسئلة الوجود الغامض إلى أبد الآبدين) .

يُسأل عن اهتماماته الأخرى فيجيب :

( الشعر يبقى هو المجرة والاهتمامات الأخرى أجرام  فالشعر هو همي المركزي)

وعن العلاقة بين تجربته الحياتية وتجربته الأدبية يقول :

(لا أفصل روح النص عن تجربتي الحياتية فنصوصي تحفل بأسماء أشخاصٍ ومدنٍ ومقاهٍ تمت بصلة إلى ممارساتي اليومية)

يرى  ( إنَّ الشعر في أسمى حالاته اقتراح أو إنشاء ميثولوجيا جديدة.. لأنَّه يحفر في  عمق الوجود الإنساني ويطرح الأسئلة الكبرى التي تتصل بهذا الوجود الصاخب والمضطرب).

هل يشعر عبد الرزاق الربيعي بأنَّ تجربته سلط عليها النقاد الأضواء؟

يقول في ذلك :

 (وسط غياب النقد أجد نفسي محظوظاً جداً من بين شعراء جيلي إذ تناول تجربتي نقديا عدد كبير من النقاد العرب من بينهم :د. عبد العزيز المقالح، و د. عبد الملك مرتاض، و د. حاتم الصكر، و ياسين النصير، ود. أحمد الدوسري ود. عبد الإله الصائغ، وشبر الموسوي، و د. محمد صابر عبيد ، ود. ثابت الآلوسي، ومحمد مبارك، ود. سعد التميمي، وآخرون).

ومن الآراء التي أشرت خصوصية تجربة الشاعر رأي للناقد ياسين النصير يقول فيه : (إنَّ قصائد عبد الرزاق الربيعي تجمع بين ثلاثة مستويات : الحدث الواقعي، والمستوى الرمزي، والمستوى التخييلي).

ويكتب النصير رسالةً إلى الربيعي يقول فيها:

(إنَّ ما كتبته مؤخراً حقل خاص لم يكتشفه شاعر يمتلك حساً ميثولوجياً وواقعياً معاً).

ويدافع الربيعي عن اتهام نصه بالوضوح بالقول : ( لو توقفت عند مستوى الحدث الواقعي دون الإيغال في المستويين الرمزي والتخييلي، فمن الطبيعي أن تتهم النص بالوضوح، فالنص بالنسبة لي كل مركب وأية محاولة من المتلقي لتفكيك أجزائه تعني الإخلال بقيمته الفنية، وقد ينحّي المتلقي الحدث الواقعي فينظر إليه كشبكة من العلاقات اللغوية التي يكتنفها الغموض، وهذه أيضا قراءة تعسفية للنص).

لو سُئلت عن الكتاب الأكثر إمتاعا الذي قرأته في عالم القراءة لقلتُ هذا الكتاب !

هو كتابٌ ليس تقليدياً من الحوار الأول الذي أجراه الدكتور محمد جاسم فلحي سنة ألف وتسع مئة وست وثمانين ميلادية وإلى آخر حوار أجراه الباحث محمود يونس السامرائي سنة ألفين وإحدى وعشرين ميلادية، بل حتى في الحوارات المرئية التي أُجريت معه يتحدث الشاعر والكاتب والإنسان عبد الرزاق الربيعي بانسيابيةٍ عاليةٍ، وبلغةٍ شاعريةٍ

أخاذةٍ عن تجربته بسخاء، وكرم، وأريحية، وحكمة لا تنفك عن شخصيته فهو كما

وصفه الشاعر عدنان الصائغ  بأنَّه ( الشاعر الأكثر براءةً ووجعاً وطفولةً وقلقاً في جيلنا الثمانيني ، أرَّخ بشهقاته الخضراء أوجاعنا ونزواتنا الخبيئة وأحلامنا)

توفر هذه الحوارات مادةً دراميةً جاهزةً لأي عمل درامي يتناول حياة الربيعي؛ لما فيها من حبكاتٍ قويةٍ، وحواراتٍ مسبوكةٍ، وأفكارٍ ذات مضامين عالية  خاصةً، وأنَّ مَنْ أجرى تلك الحوارات  أسماء لها حضور في الشعر، والسرد، والعمل الإعلامي، ومن أبرزها: الدكتور شاكر نوري، فيصل عبدالحسن، والدكتور محمد فلحي، والدكتور مجيد السامرائي،وزهير كاظم عبود،  وزاهي وهبي، وعباس حمزة، وعدنان حسين أحمد ، ومحمد الغربي عمران، ومحمد البريكي، وعاصم الشيدي، وحسن المطروشي، وعذاب الركابي،و باقر صاحب، ومحمد بن سيف الرحبي،وصدام الزيدي، وضحى الحداد،ووسام العاني، ومنى حسن، ومحمد البشتاوي، وخلود الفلاح، وطلعت المغربي، ومحمد الحمامصي، وحسين الجفال،والدكتور ناصر أبو عون، وأسامة جاد، وفاطمة حمدي، وإخلاص الزكواني، ومحمود السامرائي،وعطا عبد العال، وباسمة الحسيني، أحمد الجمال، حسين الهاشمي، مرتضى علي، والدكتورة عزة القصبي.

لقد أغنت هذه الحوارات الشاعر، والأديب عبد الرزاق الربيعي عن كتابة سيرته الذاتية الوضاءة التي دوَّنها بقوة الإنجاز.

*مقدّمة كتاب لم يصدر بعد، عنوانه (أشرعة السومري- حوارات في الشعر والمسرح مع عبد الرزّاق الربيعي) ، تقديم وتحرير: عليّ جبّار عطيّة)