في فوضى الأستعراض الطاغي وتضخم الذوات الفارغة, وضجيج الأنا الغارقة في التصنع, ونماذج صنمية متشابهة, بملامح باهتة باردة, وجوه وشخوص بلا مضامين, يمضي هؤلاء بهدوء وكأنهم لم يمروا في هذه الحياة, وأن مرو فمجرد عابرين, ويرسخ في الأذهان الكبار, تلك الاستثناءات التي تعرف تشق طريقها عبر التاريخ, وترسم مسارها في رحلة الخلود.
التعامل مع شاعر أو مثقف أوطبيب او سياسي أو أية مهنة أو صفة كانت يتضمن جنبة أخرى هي البحث عن الأنسان, وهو أكثر ما نتفقده في أيامنا هذه, فكل ما سواه مجرد القاب, تخفي خلفها ما هو مجهول.
خسارة الأنسان بعد رحلة البحث تلك لا يمكن أن تعوض, كيف سيكون الحال والعراق يفقد هرم إنساني لا يتكرر؟ وشاعر لن تجد القوافي بعده من ينظمها ببراعة عريان, الممتلئ في زمن الفارغين, والأنسان في زمن البشر المتصنعين!
أبو خلدون العراقي حد النخاع وملئ الجفون, لم يقف على أبواب السلاطين ويكتب الشعر تقربا وزلفى, بكل كتب للحزن العراقي وللأمهات الثكالى, وللأبناء المغادرين في رحلة الموت الى اللانهاية, يكتب للفقراء للجياع وللشرفاء, وينسج النصوص ليميط اللثام عن وجه اللصوص, يخيط ببراعة جرح العراق, وينزف أبياتاً وقوافي من وجع.
كم مرة يموت الشاعر أبا خلدون وهو يوثق قصة بلدِ يختنق بالدم والبارود, وتتقاسمه المآسي؟ وتتوالى عليه الطغاة؟
بين حيرة نعي الهرم الإنساني أوالشعري, أو المواطن العراقي الذي ينزف حباً وألماً وهو يكتب عن شعبه ووطنه حتى سمي شاعر الشعب, كل تلك المهام والصفات تؤكد حجم الخسارة والمرارة, لتبقى الأسئلة سيدة الموقف كيف ننعى الكبار والأنسان؟ وكيف ننعى الشعراء؟
تحسم المواقف نزاعها وتفصح عن نفسها لا مجال لنعي الكبار أبا خالدون فكل شيء يبدو صغيراً أمامهم, أنما هو عزاء للنفس برحيل لا يعوض, وقوافي تنعى سيدها في رحيل بين دموع ومطر, وهوية عراقية تفقد مدافعا آخر عنها في زمن تتصارع فيه المسوخ على محوها, ووطن يبكي شاعره الذي يغمره بقصائده ويذود عنه, فالعراق يجد العزاء والدواء في شعره الذي يخفف عنه وطأة سيوف غُرزت في خاصرته على مدى سنوات.
كل يرسم طريقه ويختار مكانه, قلة قليلة يتربعون على عروش القلوب, ويرسمون مسارات أخرى للحياة ومعاني مختلفة للوجود, ويبحثون عن أسرار الخلود, فقط هؤلاء من أدركوا معاني الإنسانية, وتركوا بصمات واضحة لمن يقتفي أثرهم عبر السنين, سيد القوافي هكذا يكون البقاء على مدى التاريخ رغم الرحيل.