23 ديسمبر، 2024 4:03 م

سياسيونَ عراقيونَ يُريدون للشعب ان يكونَ قطيعاَ ” يعْلِفونهُ ” نفطاً

سياسيونَ عراقيونَ يُريدون للشعب ان يكونَ قطيعاَ ” يعْلِفونهُ ” نفطاً

منذ ايام ونحن نسمع صيحات مدوية من قبل كتلة الاحرار في البرلمان العراقي وهم يرددون مطالبتهم بأصوات عالية, منادين بتوزيع فائض المدخول النفطي على العراقيين . واصفين ايّاه بحق الشعب الذي ينقذه من الجوع والفاقه والعوز ,  والسؤال هنا: هل الفائض النفطي وحده فقط هو الحق الذي يصل الى العراقيين من ميزانية العراق ؟ وهل عدم توزيع الفائض النفطي على الشعب هو هدر او ضياع للمال العام – مع الإشارة الى ان الفائض وغير الفائض كله برسم الفساد – ؟ وهل الفائض الذي سيوزع سينقذ العراقيين من الجوع “فقراء واغنياء” ؟ لأنه سيوزع عليهم بالتساوي . بهاء الاعرجي ممثل كتلة الأحرار اتّهم الحكومة بأنها تسلب حق الشعب في النفط – قال ذلك بعد ان كسبت الحكومة دعوى قضائية لا تجيز توزيع الفائض النفطي – وضرب وقسم الاعرجي المردود النفطي والفائض منه وخرج علينا بالقول أن المواطن الواحد سيحصل على ما يزيد – قليلا – على المأتي دولار سنويا . رئيس الوزراء نوري المالكي الذي كسبت حكومته الدعوى قال : ان الفائض النفطي مبالغ بحجمه وهو قليل جدا, ان وجد أصلا . وأضاف ان الموضوع أثير من قبل كتل سياسية لأهداف دالعاية انتخابية المبكرة التي تستهدف الناس البسطاء .. انا شخصيا سمعت من أناس قبل شهور بان أعضاء من كتلة الأحرار في بابل شرعوا بتوزيع فائض نفطي , ولا ادري هل كان حقا ذلك فائضا نفطيا ام عربونا انتخابيا ام مساعدات إنسانية بريئة من كل غاية سياسية !؟
صحيح ان سد الجوع أمر لابد ان يكون قبل كل شيء بالنسبة للإنسان , لان الجائع أعمى لن يرى الا بعد ذهاب جوعه , ولكن هل المأتي دولار – الفائض النفطي – تسد جوع الجياع وتُذهب فقر الفقراء في العراق ! ؟ وهل ليس هناك طريقا الا بتسليمها نقدا للمواطن ؟ وهل ستكون حلا ستراتيجيا للقضاء على الفقر والجوع ونقص الخدمات ؟ ام أنها طريق الى جعل الشعب قطيعا يطعمه السياسي من مخزون الثروة الطبيعية في البلد ليظل تحت رحمته “أي تماما كما هو الحال في العقائد يبقى الإنسان مطيعا أعمى للمرجعيات الدينية ” فيحول السياسي بعمله هذا دون سعي الشعب الى تطوير قدراته وتنميتها ؟
الشعب الحي هو الشعب الحر الذي يعيش من ريع جهده, (تماما كالفرد في المجتمع) وهو الشعب الواثق بنفسه, والمجتهد والعامل ابدا بكدح حقيقي على تنمية قدراته وتطورها, باستدامة لا تنتهي, والعامل على رفع مدخوله القومي , من خلال استثمار موارده الذاتية “الموارد البشرية” في الزراعة والصناعة والتجارة والسياحة والبنوك وغيرها من القطاعات المتاحة له, او التي يتيحها لنفسه والتي توفر المال والخدمات والحاجيات والسلع وسواها, وبالتالي تحقيق الرفاه الاجتماعي المقرون بالعدالة وجوبا . والسياسي الناجح هو من يعمل بكل طاقاته على تحقيق الظروف المناسبة للتنمية البشرية المستدامة ووضع الخطط والبرامج الكفيلة بان يسير هذا الشعب على الطريق الصحيح في تنمية موارده وقدراته وتطورها واستثمارها , وإلا تحول الشعب أما الى شعب ذليل محتاج ينهشه الجوع والعوز, ومرتهن لمن يطعمه كما هي حال بعض الشعوب المتخلفة الفقيرة . او الى شعب كسول متخم يعيش كالقطيع على ريع المواد الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن وسواها .  فأين الشعب العراقي من هذه الحال وهو شعب يمتلك قدرا لا بأس به من الثروات الطبيعية !؟
الإنسان يعمل لكي يعيش, لكي يبقى حيا . والغذاء وحده يتحكم بحياة الإنسان , فلا وجود للانسان إطلاقا بلا غذاء . امر يجب ان نسلم به ونضعه رأسا وبداية لكل حديث عن الإنسان , هذه هي معادلة الوجود الانساني على الأرض وكل ما خرج او يخرج عن هذه المعادلة هو تابع لها حتما ولا يصمد بعدها ابدا , كل تجارب الإنسان وحتى العلمية الأخيرة مسخّرة لخدمة الإنسان وخاصة في جانب حصوله على الغذاء من خلال البحث فيه او عنه او حوله او لما له صلة به, وتذليل العقبات التي يوجهها الإنسان في رحلته للبحث عن غذائه, مع هامش بسيط للترف, وفي عالمنا اليوم تعقدت الحياة وبات حاجة الإنسان الأولى ” الغذاء” تتمترس مختفية او متخفية وراء أشكال ووسائل وادوات مختلفة وعديدة للبحث عنه , والهدف أبدا تلبية هذه الحاجة , فالإنسان يكتشف ويخترع ويصنع ويتاجر ويحاضر ويعلم وووو….  والهدف الأول يبقى ابدا هو توفير الغذاء , ولكن علينا الاعتراف بان ما أنتجته معادلة الوجود الانساني في الحياة – أي عملية البحث عن الغذاء – كان كبيرا وهائلا امتد الى نشاطات الإنسان كافة , وتعقدت الحياة وبات البحث عن الغذاء يبدوا امرأ ثانويا لان وسائل او أدوات البحث عنه برزت على حسابه الى الواجهة .
تنحصر موارد الشعوب في الوقت الراهن في موردين فقط الأول ” الطبيعيات ” أي الثروات الطبيعية ( المعادن , النفط, الغاز وغيرها, اضافة الى الموقع الجغرافي المناخي الذي يوفر حياة للغابات والمزروعات الديمية والحياة التي تعتمد على المطر والظروف الجوية والمناخية ) وهذه الموارد ذات وظيفتين أيضا الأولى ” الطبيعيات , المعادن والنفط والغاز وغيرها ” وهي تنقسم الى قسمين الأول قيمة هذه الثروات وتشترك فيها كل الأجيال المتعاقبة ولها حق وينحصر حق الجيل الراهن بأجور استثمار هذه الثروات من اجل تأمين حياة الأجيال القادمة التي قد تجد في – مستقبلا – هذه الثروات وقد نفذت . فيكون استثمار الجيل الراهن في هذه الثروات توفير موارد جديدة لتلك الأجيال القادمة .
اما المورد الثاني للشعوب فهو “الموارد البشرية ” ونعني بالموارد البشرية هي طاقات الإنسان الكامنة والظاهرة في الفرد والجماعة , بدءا بقوة الجسد ومهاراته وانتهاء بالعقل وابداعاته وخبراته في الاكتشافات والاختراعات والتصنيع  والتفكير والتدبير والمعلوماتية والاتصال  والادارة وفي كل وصل اليه الإنسان المعاصر او ما قد يصله لاحقا , وتعد المهارات الإدارية في ميادين الحياة كافة من اهم الموارد البشرية, لأنها الاداة المُثلى لاستثمار هذه الموارد البشرية . وهناك شعوب في العالم لا تمتلك موارد طبيعية كافية لحياتها مما دفعها للبحث في استغلال واستثمار مواردها البشرية في ادارة ما لديها من موارد قليلة لتكون اكثر انتاجا وعطاءا ومن ثم استثمار تلك الموارد البشرية في دول اخرى من اجل الحصول على العملة الصعبة او البضائع او الخدمات او السلع او غيرها من الاحتياجات كمورد مادي يأتي من بلاد لا تمتك تلك  الموارد البشرية الجيدة او لديها ولكنها لا تكفي لادارة الثروات فيها . ويكون هذا المورد بفضل الخدمات التي يقدمها افراد الدولة ذات الموارد البشرية الافضل . وهناك تجارب لشعوب سحقتها الحروب والفقر وقلة الموارد , ولكنها اعتمدت على استثمار مواردها الطبيعية في تنمية ذاتها وتصدير تلك الموارد الى دول اخرى , كعمل وخبرات وعلم وحصلت مقابل ذلك على موارد جديدة استطاعت من خلالها قهر الفقر والجوع والتخلف واصبحت في مصافي الدول المتقدمة التي يرفل شعبها بقسط كبير من الرفاهية .     
ومن تلك الشعوب التي مرت بهذه التجربة شعب كوريا الجنوبية الذي كان لا يمتلك أي شيء بعد خروجه من الاحتلال الياباني قبل اكثر من خمسين عام وكان افقر شعب في العالم بعد الهند, واليوم كوريا الجنوبية هي من بين اكثر دول العالم تطورا في معظم ميادين الحياة . فهي الدولة الأولى في صناعة السفن وفي حوسبة المناهج الدراسية وفي مؤشر الفرصة الرقمية, والثانية في صناعة LCD   وانتاج الهواتف المحمولة, والثالثة في حجم قطاعات الإنشاء, والرابعة في احتياطات العملة الأجنبية, والخامسة في انتاج السيارات والصلب واستخدام محطة الطاقة النووية, وآخرا وليس أخيرا احتلت كوريا التسلسل 12 في حجم التعامل التجاري العالمي . كل هذا الذي وصلت به كوريا الجنوبية من الفقر المدقع واليأس والخراب الى ما وصلت اليه اليوم من رفاهية وتطور وتقدم علمي كان نتيجة استثمار واستغلال الموارد البشرية البسيطة أنذلك والمتمثلة بالعمال والممرضات الذين ذهبوا الى اوروبا ليعملوا هناك ويجلبوا المال الى بلدهم الذي خلفوه وراءهم وقد حطمته الحرب والجوع والفقر واليأس , وبعد ان أعجب رئيس المانيا باكيه ذات عام بالعمال الكوريين دعا رئيس كوريا لزيارة المانيا وعندما وسمع وشاهد الرئيس الألماني بكاء الكوريين وهم يرددون نشيدهم الوطني ويرجون رئيس المانيا – راكعين متوسلين – ان تساعد ألمانيا الشعب الكوري وعدهم بذلك . واليوم الشعب الكوري ينعم بالحرية والديمقراطية والرفاهية  ويضاهي دولا كبرى متقدمة في العلوم والتكنولوجيا والفكر وينعم بحياة افضل من حياة شعوب متخمة بالثراء .
وبعد هذه الصورة هل هناك في العراق استغلال للموارد الطبيعية من اجل تطوير الموارد البشرية ؟  ام ان السعي قائم على استهلاك الثروات الطبيعية بشكل يومي كمخزون غذائي محدود , وبالتالي فان الشعب يكون اشبه بقطيع يعلفه السياسي او الحاكم من مخزونه الغذائي المحدود دون تنميته او توفير بدائل له , ويظل الامر الأخطر هو ما يرافق هذه الحال من مشاكل وضعف ووهن لدى الشعب الذي يأكل من ثرواته فقط ولا يستثمر ويطور موارده البشرية وطاقاته , فيطمع به الغير وقد يستغله ويسلب حتى ثرواته الموجودة على ارضه كما كان يفعل الاستعمار الأوروبي القديم وكما تفعل الدول الرأسمالية الحالية في الوقت الراهن . 
وأخيرا هناك ثمة معادلة صغيرة وبسيطة يجب الوقوف عندها لأنها مفتاح الحياة الكريمة الآمنة العادلة على مستوى الفرد وعلى مستوى الشعب معا وهي : ان يكون انتاج الفرد اكثر من استهلاكه الشخصي  وان يكون في انتاجه  فائض عن حاجته الشخصية, على ان يذهب الفائض في الإنتاج الفردي الى خزينة الدولة على شكل ضرائب تترجم لاحقا الى خدمات تقدمها الحكومة للشعب .  مثلا اذا كانت حاجة الفرد الى عشرة آلاف دولار سنويا , عليه ان يقدم إنتاجا بقيمة اكثر من هذا المبلغ وبما يوازي الخدمات التي يحتاجها من المرافق العامة التي تُديرها الدولة , والهدف هو استدامة هذه المرافق وتطوريها وتوسيعها لاستيعاب حاجات  الأجيال القادمة