18 ديسمبر، 2024 4:53 م

أعتقِدُ أنّ الكثير مِن مثقفي العالم سيُجمعون على أن المجتمعات البشرية وحال ظهور العملة المالية (المال) فيها قبل ما يقارب الخمسة آلاف سنة إضطرت الى إنشاء أول نظام لأدارة نفسها بعد أن كانت أفراد تلك المجتعات البشرية غير خاضعة لأي شكل من أشكال السيطرة والإدارة والقانون، ولم يكن أمام تلك المجتمعات سبيل لإنشاء نظام الإدارة ذاك سوى سبيل إبتكار موضوع (الدين) الذي يتضمن قيام (قائد) بأدعاء إمتلاكه توكيل من (الله) لحكم أفراد مجتمعه وفقاً للقوانين التي يُمليها عليه الإله (سِرّياً).

ظهور الأديان في العديد من المجتمعات البشرية قبل آلاف السنين كان يُمثل ولادة أول الأنظمة السياسية والقانونية والإدارية في التاريخ الإنساني على سطح الأرض، بعدها تطوّرت تلك الأنظمة مروراً بالأنظمة الإقطاعية والأنظمة القومية والأنظمة الإشتراكية والشيوعية والرأسمالية والعلمانية والليبرالية ولغاية يومنا هذا.

ما يلاحظه أغلب المفكرين والمثقفين في العالم أنّ الموضوع (الأساسي) و(المركزي) الذي كان وما تزال تتمحور عليه أهداف جميع أنواع الأنظمة التي توالى العقل البشري في إبتكارها لإدارة شؤون مجتمعاته هو موضوع (المال) وما يتعلق به من نتائج عرضية تخص مديات الحريات العامة في المجتمع كحرية التفكير والتعبير وحرية الإنسان في حياته الجنسية الخاصة.

فـ (المال) كان السبب المباشر لإبتكار وتوالي ظهور العديد من الأديان والمذاهب الدينية التي حكمتْ مجتمعاتها سياسياً قبل آلاف السنين، كما شهدت المجتمعات البشرية بعد تطوّر حجم وأبعاد الإقتصاد ظهور الأنظمة السياسية ذات الطابع الإقطاعي أو الطابع القومي أو الطابع الإشتراكي أو الشيوعي وصولا الى ظهور أنظمة علمانية وليبرالية غربية حديثة تُؤمِن بالمساواة وعدم التمييز بين إنسان وآخر بسبب لونه أو جنسه أو إنتمائه القومي أو الديني أو المذهبي، كما تُؤمِن بحرية التفكير والتعبير لكل إنسان، مثلما تؤمن بعدم التدخُل في خيارات النشاط الجنسي الشخصي للإنسان، وكل هذا جنباً الى جنْب العمل على توفير فرص العمل الواسعة مع إتّباع سياسة إقتصادية وضريبية إشتراكية وتضامنية تُؤمِّن فيها الدولة العيش المناسب لكل العاطلين وغير القادرين على العمل.

أغلب الأنظمة العلمانية المعاصرة تتّبع سياسة التطوير والتغيير المستمر في قوانينها التي لا تستند على أيّ أحكام أو أصول دينية وبالشكل الذي يؤدي الى تحقيق المزيد من المساواة بين أفراد مجتمعاتها وتوسيع مساحة الحقوق الإنسانية في حرية التفكير والتعبير والتصرف في الحياة الجنسية الخاصة، وهكذا ينحسر دور رجال الدين في هذه الأنظمة العلمانية في حدود مهنتهم الـ (روحانية) المشروعة والتي قد تَمنَح الإستقرار النفسي للكثير مِن الأفراد الذين قد يلجأون الى رجل الدين طوّعياً دون أنْ يكون لمهنة رجل الدين أي دوّر في فرض الأحكام والأنظمة والقيود الدينية على أفراد المجتمع.

عموم العقول البشرية أصبحت تدرك أنّ أساس نجاح إدارة أيّ مجتمع هو الإيمان المُطلق في حق كل إنسان في السلام وفي الحياة الحرة الكريمة البعيدة عن التمييز العنصري والقومي والديني وفي حق كل إنسان في حرية المُعتقد وحرية التعبير والتفكير دون أنْ ينال الإنسان مِن كل الحقوق المماثلة لغيره من البشر، لذا فأن الماركسية مثلاً، ورغم أنها أحدى النتاجات العلمية والفكرية الإنسانية الرائعة والعظيمة من حيث وضوحها في بيان التأثير الحاسم لـ (المال) في حياة البشر الا إن القادة السياسيين الشيوعيين لم ينجحوا في تحقيق الكثير من الإيجابيات التي حققتها الأنظمة السياسية العلمانية، حيث إنفرد القادة الشيوعيون بالسلطة السياسية متحوّلين الى دكتاتورية تتطابق مع الدكتاتورية السياسية الدينية في مجال مصادرة حقوق الإنسان في حرية التفكير والتعبير وفي مجال فرض الأحكام والممارسات القمعية على عموم المجتمع.

أغلب المثقفين والمفكرين في العالم يرون أنّ جميع الإدارات السياسية الدينية لم تنجح على مدى التاريخ البشري ولغاية يومنا هذا سوى في المزيد من مصادرة الحقوق الإنسانية في حرية التفكير والتعبير والمزيد من التمييز بين إنسان وآخر بسبب إعتقاده الديني والمذهبي، الا أنّ جميع هذه الإدارات الدينية السياسية نجحتْ بإمتياز في حصْر (المال) و(المتعة الجنسية) بيد القلة من رجال الدين وعوائلهم ومقربيهم رغم أن هذه الإدارات تدّعي الِإقتداء بأحكام (الله) والـ (دين) أو (المذهب الديني) وما قد تدعو اليه تلك الأحكام من أخلاق مثالية فاضلة تنبذ شهوة السلطة والمال والجنس.

قد نجد هنا أو هناك عدد من الأنظمة العلمانية ممن لم تستطع الوصول بمجتمعاتها الى أوضاع متقدمة في الناحية الإقتصادية والمعيشية لكن ذلك يعود ذلك غالباً الى عدم كفاءة أو نزاهة القادة السياسيين، دون أن يعني ذلك صعوبة وصول تلك المجتمعات الى الأوضاع المنشودة في حال تغيير اولئك القادة من السياسيين، فالشيء الأساسي والمهم هو وجود الأيديولوجية التي تُؤمِنْ بحقوق الإنسان في السلام والحياة الكريمة وحرية التفكير والتعبير دون حدود أو قيود، في حين أن جميع الأنظمة ذات الطابع الديني وحتى لو أنّ بعضها ينجزُ بعض النجاحات الظاهريّة بسبب ظروف خاصة مثل توفر موارِد طبيعية كثيرة، الا أنّ هذه الأنظمة الدينية تبقى أنظمة فاشلة جداً في أرساء حقوق الإنسان أو توفير أوضاع المساواة بين أفراد مجتمعاتها، نظراً لأن أساس إيديولوجية الإنظمة الدينية هو التمييز بين البشر حسب إنتماءهم الديني أو الطائفي وتقييد حرية التفكير والتعبير مع التدخل السُلّطوي في الحياة الجنسية الشخصية للإنسان.

مثقفو العالم يَرون أنّ وجود الأنظمة السياسية الدينية في بعض مجتمعات العالم حالياً يُؤشر وجود حالة سلبية وخطيرة جداً تُسيء الى عموم الإنسانية، فهذه الإنظمة هي بقايا أقدم الإنظمة السياسية التي إبتكرها العقل البشري قبل ما يقارب الخمسة آلاف عام لإدارة شؤون مجتمعات بدائية خالية حينها تماماً مِن أيّ شكل من أشكال علوم الإدارة والقانون، لذا فإن وجود مثل هذه الأنظمة البدائية في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد لا يُصادر أغلب الحقوق الإنسانية الأساسية للمجتمعات التي تتواجد فيها حسْب، وأنما تُشكّل هذه الإنظمة الدينية خطراً يُهدد السلم العالمي، فـالأنظمة السياسية الدينية لا يُناسبها أبداً أستقرار مجتمعات العالم ذات الأنظمة العلمانية المؤمِنة بحقوق الإنسان والمساواة بين البشر.

إستمرار وجود الأنظمة السياسية الدينية في بعض المجتمعات البشرية في عصرنا الحالي يعتمد كلياً على مدى بقاء وإستمرار أوضاع حرمان الإنسان في تلك المجتمعات من الحقوق الأساسية في الحرية والعيش الكريم.

الأنظمة السياسية الدينية تُصوّرُ نفسها دائماً كـ (بديل) سِحري يمثل إرادة (الله) القادر على منْح فرصة العيش لكل إنسان يخضع بشكل كامل لأحكام رجال الدين حتى لو فقدَ ذلك الإنسان حقوقه الإنسانية في المساواة وفي حرية التفكير والتعبير.

يرى أغلب مثقفي العالم أنّ مهنة (رجل الدين) قد تبقى مهنة محترمة كباقي جميع المهن البشرية طالما أنها لا تتجاوز حدودها المتعلقة بالجانب الروحي حسْب، لكن قيام بعض رجال هذه المهنة بإقحام أنفسهم في النظم السياسية في العصور الحالية بهدف (فرْض) الأحكام والأصول الدينية والمذهبية قد يمثل إساءة الى (الله) مثلما قد يُمثل ذلك إساءة الى مهنة (رجل الدين) نفسها، حيث أنّ مِن أهمّ المواصفات الحديثة المفْترضة لمهنة رجل الدين هو الزُهد عن السُلطة والمال، مثلما أنّ أول الصِفات الحديثة المُفترضة لـ (الله) هو أنه يُساوي بين كل البشر دون أن يَحْرِم أحدهم مِن الحقوق المُطلقة في حرية التفكير والتعبير.

أخيراً، أرى أنّ جميع الأحزاب السياسية في مجتمعات العالم بما فيها تلك الأحزاب الغير دينية وكذا الأحزاب ذات التوجّهات الديموقراطية والعلمانية أنما هي تُمثل السلالة الحديثة المتطورة من فصيلة (رجال الدين)، وعليه أرى أنّ مستقبل أوضاع إدارة البشر لنفسه سيكون بالإستغناء الكامل عن جميع الأحزاب السياسية بكل أشكالها وأنواعها وإتجاهاتها ولتكون الطاقات والكفاءات الفردية لكل إنسان هي التي تؤهله لقيادة التنظيمات القانونية والإقتصادية التي تتولى إدارة كل مجتمع.

لنا مقالات مقبلة قي هذا الكتاب عن جوانب أخرى في موضوع السياسة والدين!

يتبع ..

اعلاه هو مقال ( سياسة ودين ) من كتابي المعنون بـ ( أحترم جداً هذا الدين ) والمنشور عام 2021 بأكثر من تسع لغات رئيسية متداولة في العالم .