في الثالث من شهر نيسان-ابريل الماضي، اعلنت السلطات التركية تعليق حركة اسطولها الجوي من والى مطار السليمانية الدولي في اقليم كردستان بشمال العراق، وفوق ذلك اغلقت المجال الجوي التركي امام الرحلات الجوية القادمة من المطار او المتوجهة اليه.
وجاء في بيان الخارجية التركية في هذا الشأن، انه “تم إغلاق المجال الجوي التركي، أمام الطائرات التي ستستخدم مطار السليمانية الدولي في العراق، للهبوط والإقلاع، اعتبارا من 3 أبريل الحالي، وان القرار المذكور جاء في إطار تكثيف أنشطة تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي في السليمانية، وتغلغل التنظيم الإرهابي في المطار، وبالتالي تهديد أمن الطيران، وان هذا القرار سيكون ساري المفعول حتى 3 يوليو/تموز 2023 في المرحلة الأولى، ثم ستتم مراجعته في ضوء التطورات التي سنراقبها عن كثب حتى التاريخ المذكور”.
ولعل عبارة “تكثيف انشطة تنظيم حزب العمال الكردستاني الارهابي في السليمانية..” كانت اشارة ضمنية واضحة الى زيارة قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي للمدينة وعقده لقاءات واجتماعات مفصلة مع كبار قيادات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وفي مقدمتهم امينه العام بافل الطالباني.
وبعد ايام قلائل، تعرض عبدي لمحاولة اغتيال حينما كان يحلق بطائرة مروحية مع مسؤولين اميركان قرب مطار السليمانية، اذ اكدت وسائل اعلام واوساط سياسية كردية عراقية، “ان مظلوم عبدي كان في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، وكان يستقل مروحية عسكرية، وكانت طائرتين تركيتين تراقبانه”. وبشأن عدم توجيه الضربة بصورة مباشرة له، أشارت المصادر إلى أن وجود شخصيات أجنبية ليست سورية ولا عراقية، منعت الطائرتين التركيتين من اغتياله ووجهت ضربات تحذيرية له فقط”.
ومعروف ان انقرة على خصومة وعداء شديدين مع قوات سوريا الديمقراطية الذي يعد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري القريب من من حزب العمال الكردستاني (PKK) العمود الفقري لها، وطبيعي ان اي تقارب بين قوات سوريا الديمقراطية وأي كيان كردي عراقي لابد ان يثير حفيظة انقرة ويدفعها الى اتخاذ اجراءات تصعيدية، وهذا ما حصل مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. اذ ان الانفعال التركي لم يبدأ من زيارة عبدي للسليمانية، وانما من زيارة بافل الطالباني لشمال شرق سوريا في اواخر العام الماضي، برفقة قيادات عسكرية اميركية، حيث التقى هناك قائد قوات سوريا الديمقراطية وعدد من قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني(PYD)، وهو ما دفع انقرة الى اسقاط مروحية فوق محافظة دهوك كانت تحمل عددا من قيادات وكوادر قوات سوريا الديمقراطية الى السليمانية، ناهيك عن عمليات استهداف طالت عناصر من حزب العمال الكردستاني في المناطق الخاضعة لنفوذ الاتحاد الوطني.
هذه الوقائع وما ارتبط بها من تفاعلات ومستجدات، اشرت الى ان اصحاب القرار التركي، سواء من السياسيين او العسكريين ذاهبين الى خلط الاوراق بدرجة اكبر في اقليم كردستان العراق، لتحقيق جملة اهداف، منها، تعزيز الوجود السياسي والاستخباراتي والعسكري التركي في شمال العراق، واثارة الخلافات والصراعات والتقاطعات بين القوى الكردية العراقية الرئيسية، وتحديدا الاتحاد الوطني الكردستاني(اليكتي) والحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، وكذلك حرف انظار الرأي العام الداخلي في تركيا عن الازمات السياسية والاقتصادية، في ذات الوقت الذي يعمل حزب العدالة والتنمية الحاكم بزعامة الرئيس رجب طيب اردوغان على استغلال وتوظيف ورقة الصراع مع الاكراد لترجيح كفته على منافسيه في معركة الانتخابات الرئاسية حامية الوطيس، والتي يبدو ان فرص اوردغان فيها هذه المرة متدنية وتكاد تكون معدومة في البقاء لولاية رئاسية اخرى في اطار تحالف اطراف المعارضة وتقديمهم مرشح قوى، هو زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار اوغلو.
الى جانب ذلك، فأن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، لاسيما في ظل قيادته الجديدة الشابة المتمثلة ببافل الطالباني، الذي نجح في اقصاء منافسيه والشخصيات المخضرمة في الحزب، وبالتالي الامساك بزمام الامور بقوة عبر بناء علاقات جيدة مع خصوم خارجيين كأيران والولايات المتحدة الاميركية، يسعى الحزب الى استعادة ما فقده من مقومات وعناصر قوة في الساحة الكردية منذ مرض زعيمه السابق جلال الطالباني اواخر عام 2012، ومن ثم وفاته في خريف عام 2017.
وبما انه يدرك ان انقرة لايمكن ان تفرط بحليفها وسندها الحزب الديمقراطي الكردستاني، لذا فانه راح يمد الخيوط وينسج التحالفات مع خصومها، كحزب العمال وقوات سوريا الديمقراطية وقوى كردية اخرى، مع معرفته الكاملة بأن هناك مصالح استراتيجية لانقرة في السليمانية، لعل من ابرزها استثمارات الغاز الطبيعي الموجود في معظمه بمناطق نفوذه، ستدفعها عاجلا ام اجلا الى التواصل والتحاور معه. ناهيك عن انه ربما يعول على حدوث تصدعات وانشقاقات وانقسامات في الحزب الديمقراطي الكردستاني مستقبلا، قد تتيح له توسيع وتكريس نفوذه ونفوذ حزبه على مساحات اكبر، ومن ثم تحييد خصومه ومنافسيه، واللعب والتحرك في القمة.
في ذات الوقت، ربما يرى الحزب الديمقراطي الكردستاني أن تشديد أنقرة ضغوطاتها على الاتحاد الوطني يمكن ان يساهم في ابقائه ضعيفا ومشتتا وفاقدا للقدرة على اكتساب عناصر قوة تتيح له أن يكون رقما صعبا ومؤثرا في المعادلات، وتزيد من تشرذمه وانقساماته الداخلية. وبالتالي حفاظ الديمقراطي على محوريته وامساكه بكل أدوات القوة واوراق السلطة في الاقليم.
ولاشك ان التجارب السابقة، اثبتت ان مثل هكذا مراهنات تبدو عقيمة وغير ذات جدوى بالنسبة لمختلف الاطراف في اقليم كردستان، ومن بينها الاطراف التركمانية التي يعد البعض منها تركيا تمثل عمقه الاستراتيجي والحائط الرصين الذي يستند عليه.
فالتدخلات التركية لصالح هذا الطرف على حساب الطرف الاخر، لم تتسبب الا الى بالمزيد من الاستنزاف للجميع، والمزيد من المشاكل والازمات والفوضى والاضطرابات. فعلى سبيل المثال، يعاني الحزب الديمقراطي الكردستاني كثيرا جراء التواجد العسكري التركي في مناطق نفوذه، ويعاني من طريقة ادارة انقرة وتعاملها مع حزب العمال الكردستاني التركي المعارض. فعمليات القصف الجوي والمدفعي المتواصلة من قبل الجيش التركي للعديد من المدن الكردية التابعة لمحافظتي دهوك واربيل، الحقت خسائر واضرار بشرية ومادية هائلة، وخلقت اوضاعا مرتبكة للغاية، دون ان تفضي الى حلول ومعالجات واقعية على الارض، بل على العكس من ذلك، انها ادت الى اتساع نطاق تواجد تشكيلات حزب العمال وتحوله الى طرف مؤثر في الميدان، خصوصا بعد وصوله وتمركزه في مدينة سنجار التابعة لمحافظة نينوى عند دخول تنظيم داعش اليها ولمدن عراقية اخرى صيف عام 2014.
ويؤكد ساسة اكراد في نقاشاتهم داخل الكواليس والاروقة الخاصة، انه كلما تدخلت تركيا اكثر في اقليم كردستان، كلما ازدادت وتعمقت المشاكل بين القوى الكردية، ويعتقدون انه مثلما يخطأ الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) في الذهاب بعيدا بتحالفه مع انقرة وتعويله عليها، فان الاتحاد الوطني الكردستاني(اليكتي) يخطأ حينما يتجه الى استعادة قوته وتعزيز نفوذه بالتحالف والاصطفاف مع خصوم انقرة، لانه في نهاية المطاف سيجد نفسه في دوامة من الاستنزاف، وسيقحم جمهوره وجزء كبير من المكون الكردي في لجّة صراعات عبثية كسابقاتها على امتداد اربعة عقود من الزمن او اكثر.
وربما لاتكون مصادفة، ان يترافق عموم التصعيد التركي وخلط اوراق المشهد الكردي العراقي من قبل صانعي القرار في انقرة من رجال السياسة والعسكر والمخابرات مع استحقاقات كردية مهمة، من قبيل الانتخابات، ومع تأزم وتأزيم بين اربيل والسليمانية يبدو من الصعب التنبوء بمدياته لاسيما اذا كانت محركاته متعددة، وخيوطه متشابكة، وخطوطه متقاطعة.
وكل ذلك يتطلب قراءة معمقة ودقيقة للوقوف على مالات المشهد الكردي العام في المرحلة او المراحل المقبلة.. وهذا ما سنتركه لفرصة اخرى.
——————————
*كاتب وصحافي عراقي