يَسوسونَ الأُمورَ بِغَيرِ عَقلٍ
فَيَنفُذُ أَمرُهُم وَيُقالُ ساسَه
فَأُفّ مِنَ الحَياةِ وَأُفّ مِنّي
وَمِن زَمَنٍ رِئاسَتُهُ خَساسَه
(أبو العلاء المعري)
لا أظن أحدا من الدانين والقاصين ينكر مافعله نظام صدام بمقدرات البلد إبان حكمه، حيث انقضّ طيلة الربع الأخير من القرن الماضي على أركان البلد، هادما مدمرا مخربا بعمد ودراية وقصد، وذكر أفعاله غني عن الشرح والتبيان، فضلا عن آثاره التي مازالت تخيم على سمائنا شئنا أم أبينا! يومها كان العراقيون لايفقهون في الأمور السياسية، إلا ماتمليه عليهم الاجهزة الاعلامية المسيَّسة، من خلال قنوات راديوية وتلفازية محلية لايتجاوز عددها أصابع الكف الواحدة، وكان الكثيرون لا يفكرون في يومهم إلا بلقمة العيش. واستمر الحال على هذا المنوال، والناس بين خائف وصبور ومتمرد ومعدوم ومسجون، او فارٍ من العراق الى حيث يدري ولايدري.
الى ان جاء الفرج وانزاحت (الغمّه من هالأمّه). انه يوم 9/4/2003 حيث الديمقراطية والحريات بأنواعها، تلقاها العراقي بتعطش يعود لعقود خلت، اهمها التكلم والبحث بالسياسة ونقد السياسيين وقراراتهم، والتظاهر اذا كان ثمة قرار لايصب في مصلحته. فسالت دماء منه في الدفاع عن حقوقه، حتى بدأ يشعر انه قادر على إجبار المسؤول على العمل لمصلحة البلد، وأن بإمكان الشعب أن يكون السلطة الحاكمة الكبرى، وإرادته فوق إرادة السلطات كما سمع هذا الموال في أكثر من مقام، وكان له ذلك، ولكن في النزر اليسير من حقوقه، فالبحر الذي خاض غماره عميق جدا، وفيه من الحيتان ما لم يكن بحسبانه، ومن الأمواج ما لايقدر على الصمود امامها، وجابه سفانين يجيدون فن مجابهة الرياح العاتية. و(لات حين مناص) فصار حاله اليوم كحال اولئك الذين قال لهم طارق بن زياد: اين المفر؟ العدو من امامكم والبحر من ورائكم، أوكما يصور بيت الشعر:
ليل وزوبعة وبحر هائج
لا أرى إلا السفينة تغرق
وهكذا انزلق العراق والعراقيون من جراء سياسات قادته المتعاقبين شر منزلق، وبات خروجه من مطب يعني ولوجه في مطبات أشد قسوة وأكثر ضيقا، ولكن فات السفانين ان عراقي اليوم غير عراقي الحقبة الماضية. فقد وعى وبات يميز اي السفانين يسير بالإتجاه الصحيح، وأيهم يسير وراء غايات بعيدة عن المرسى الآمن للبلاد، ولم تعد تنطلي عليه ألاعيب المغرضين، وعرف الشخوص التي تمسك بخيوط الدمى الخليعة التي تتصيد بالمياه الآسنة، وتعكر صفو الماء الزلال، والسياسة التي كانت (بعبع) أصبحت اليوم حديثا شيقا تعرف دهاليزه شرائح الشعب جميعها. وقبل نشرة الأخبار نجد رواد المقاهي على بساطتهم يحللون الاحداث، ويعرفون ماغاية (زيد وعبيد) من مقاله او تصريحه.
نعم، فالعراقي لم يعد فكره سطحيا عن السياسة وألاعيب الساسة، كما أنه بات على دراية تامة بما يدور حوله من أفانين وخزعبلات يسمونها سياسة. وما يدور اليوم في أروقة الحكومات على تعاقبهم لم يعد (طلسم) بعين المواطن، وعلى سبيل المثال الحراك الدؤوب الذي يقوم به رؤساء الوزراء جميعهم، أرى أن العراقيين باتوا يقيمونه بمنظارين، والاثنان لهما من الصواب الكثير من النصيب، أولهما أن الرجل يجود فيما هو يسعى اليه، إلا أن المعية والحاشية والـ (حبربشية) يعرقلون خطواته ويثبطون معنوياته، لغايات هي الأخرى لاتخفى على المواطن.
وأما المنظار الثاني، فهو أن الرأس الأكبر نفسه شط عن الأهداف المنشودة التي اعتلى بها منصبه، وانحاز قليلا -وبالأصح كثيرا جدا- عن طريق الإصلاح الذي رسمه على أجنحة الأحلام، وأجزل مواعيده المعسولة للمواطن بأنه عازم على الإقدام فيه. وفي الحالين والمنظارين لن يكون المآل حميدا على المواطن، وسيغرقه في لج بحر لن تقوم له قائمة بعد ذلك.
[email protected]