السياسة ذات حدين لا توسط بينهما فأما أن تكون نارا أو ماءً , وسياسة النار هي السائدة في الأرض منذ الأزل , ذلك أن البشر ما أن يمتلك سلاحا حتى يبادر لإستخدامه , ولا يوجد سلاح في الدنيا لم يتم إطلاقه والتبجح بسطوته , والدول القوية هي الدول التي تمتلك قدرات تصنيع الأسلحة الأعظم تدميرا وفتكا.
فالقوة الحقيقية المؤثرة في الحياة ليست القوة الإقتصادية وإنما العسكرية , وهذا ديدن التفاعلات ما بين الدول والأمم والمجتمعات , فهي أولا وكل قوة أخرى تأتي بعدها وفقا لتسلسلات ذات تقديرات مكانية وزمانية.
فالمهيمن على السلوك السياسي هو لغة النار لأنها تعني القوة والقدرة على الفتك بالآخر , وما يتحقق اليوم عبارة عن التفاعل بهذه اللغة التي تعني أنها تعبر عن إرادة النار , أي أن سلوك النار هو الذي يُراد له أن يتحقق ويسري , فالنار تحرق وتتأجج وتمتد وتأكل الأخضر واليابس معا , وذلك يتناسب مع شدة سعيرها وتأجج لهيبها , كما أنها تطلق دخانا تتناسب كثافته مع نسبة الأخضر المحروق.
والنار السياسية تحتاج إلى أفراد يتميزون بالخرق والأنانية والنرجسية والإحساس بالعظمة وإمتلاك الإرادة المطلقة , وهذا متوفر في الأرض في هذا الزمان الحارق المارق , مما يعني أن الدنيا مقبلة على تفاعلات مروعة لم تحصل لها من قبل , وقد بدأت علائمها تلوح , وقواها أخذت تكشر عن أنيابها وتطلق ما عندها من آفات الدمار الفظيع , وقبل يومين تم إسقاط أكبر قنبلة في التأريخ تزن أحد عشر طنا , وما ياتي أفظع وأخطر.
تلك سياسة النار المشتعلة في الرؤوس والقلوب والنفوس , والتي ربما ستزداد إشتعالا.
أما سياسة الماء التي تعتمد على العقل والحلم والتفاعل الإنساني الرحيم , فأنها لا تنفع الدنيا ولا تصلح للحياة , ولهذا فأن الحروب متواصلة , والنزاعات لا تنقطع , والويلات تتوالد , والإفتراسات تتعاظم في أرجاء الأرض , وما أسهل التبرير والتسويغ للمآثم والخطايا والرزايا.
سياسة الماء فاشلة وخائبة , لأن سياسة النار في أجيج , وإقتدار فائق على التعبير عن نوازع المطمورات البشرية والرغبات السيئة المعتملة في الأعماق , تلك النوازع التي عجزت جميع الأديان والعقائد عن لجمها وتهذيبها وتوظيفها للحياة الآمنة السعيدة.
وساسة الماء فاشلون , وساسة النار مهيمنون , والأمم التي لا تحمل النار وتحرق غيرها ستحترق بنيران الآخرين , فالسياسة الدولية تتأرجح ما بين الحارق والمحروق , وتلك حقائق يتم إغفالها والتمويه حولها , وما ذلك إلا تضليل وخداع لمزيد من الإحراق والإنسجار في تنور الحارقين.
ومعظم مجتمعاتنا تحوّلت إلى سجير في سوح الحرق الإقتداري الهَيْمني الوقاد , وما عاد أمامها سوى خيار الرماد , إن لم تبادر إلى إدراك ضرورات سكب الماء على النيران الناشبة فيها , والنار لا تميز بين الأشياء , فكل شيئ سيكون طُعما للنيران , وتلك حقيقة الخسران!!