إن المتأمل في أوضاع العراق السياسية والتقلبات التي حدثت له يرى بوضوح أن الواقع المرير الذي وصل إليه هذا البلد الجريح لم يكن وليد صدفة أو حدثاً عابراً يمثل نزوة سياسية لفئة معينة أو حزب معين، لأن حجم الأزمات التي تختلق في البلاد لتقويض كل معالم الحياة فيه يؤكد أن ما يحصل هو مخطط وفق أجندة تم حياكة شباكها في دهاليز الشر العالمية التي ترسم سياسة الأزمات في العالم كله، وهي أجندة تشترك في تنفيذها دول عديدة دأبت على صناعة الشر واختلاق الأزمات في الدول عموماً وفي الدول ذات الثروات الكامنة على وجه الخصوص، وفي مقدمة هذه الدول الراعية للشر أمريكا ومعها حليفاتها بريطانيا وفرنسا وانضم إلى هذا الركب دول عدة من معسكر الشرق أيضاً، وأشر هذه الدول في معسكر الشرق خطراً هي إيران، هذه الدولة الجارة السوء التي لم تبرح عن الإيذاء والكيد لأهل العراق، ولطالما عبرت عن حقدها الدفين صراحة وجهاراً نهاراً.
لقد أصبح خطر إيران على العراق وعلى الدول العربية المجاورة هو الأشد والأقسى ضراوة على البلاد والعباد، فهي لم تكتفِ بما أحدثته من خراب ودمار في العراق، بل انتقلت إلى صناعة الشر والأزمات في سوريا ولبنان واليمن، ولن تكتفِ بذلك فقد ازداد تعطشها للشر ونهمها للأزمات، وبلغ مبلغاً كبيراً تجاوز حتى حلم إيران في إعادة بناء أنقاض الامبراطورية المزعومة، ولن تتوقف إيران حتى تبلغ نيران حقدها حدود مكة والمدينة وأبعد من ذلك.
واليوم تعمل إيران عمل مبضع الجراح في تقطيع أوصال البلاد العربية عموماً، والعراق خصوصاً، فهي تركز على العراق لأسباب عديدة، ولعل أوفر هذه الأسباب حظاً لها في العراق هو وجود الأذرع السوداء ذات الولاء المطلق، وهذه الأذرع لم تعد تعمل في الخفاء كما كانت تعمل في سابق عهدها، بل هي اليوم تعمل في العلن، ولها مليشيات سائبة مسلحة، تقتل وتحرق وتسرق وتدمر، وتقوم باستعراضات عسكرية في بلد يدعي سيادة موهومة مزعومة، وليس هذا فحسب بل وصلت هذه الأذرع السوداء إلى مفاصل الحكم في البلاد، وأصبح لها كيانات سياسية متعددة تتبادل الأدوار في إدارة البلاد وفق الأجندة الإيرانية، فهم أدوات فقط ليس إلا، والحاكم والآمر الناهي هم ساسة إيران وقادتها.
ولكي أدلل على ما أقول بشواهد واقعية نستذكر تفجير المرقدين العسكريين، وكيف قُيّد الفعل ضد مجهول دأبت الحكومات الطائفية المتعاقبة في العراق على نسب جرائمها إليه، لكن تصريحات الجنرال (جورج كيسي) رئيس قيادة أركان قوات الاحتلال الأمريكية السابق في العراق كشفت النقاب عن الجاني الحقيقي، والمنفذ لهذه المؤامرة، وهي إيران المسؤولة عن تفجير المرقدين العسكريين في قضاء سامراء بمحافظة صلاح الدين عام 2006، وذلك في كلمة ألقاها خلال مؤتمر عقدته المعارضة الإيرانية في فرنسا، وقد قال فيها: ” إن نظام الملالي في طهران مسؤول مسؤولية مباشرة عن مقتل الآلاف من العراقيين “، مؤكداً أن إيران فجرت المرقدين العسكريين بهدف إشعال الفتنة الطائفية بين أبناء الشعب العراقي وإضعاف العراق وتخريبه لإنهائه كدولة، وأكد (جورج كيسي) أن نوري المالكي رئيس الحكومة السابقة، أبلغه بأن الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الطائفية التي تتلقى دعماً مباشراً من فيلق القدس الإيراني تقف وراء معظم الأهداف المدنية التي تم تفجيرها في العراق، وشهد شاهد من أهلها، فالمالكي هو ربيب البيت الإيراني، والذي نجح إلى حد كبير في تحقيق مآرب الأجندة الإيرانية في العراق.
والشاهد الثاني هو من إيران نفسها، إذ صرح (علي يونسي) مستشار الرئيس الإيراني (حسن روحاني) تصريحاً خطيراً، ينم عن الأطماع الإيرانية في العراق، فقال يونسي في كلمة ألقاها بمؤتمر في طهران، ونقلتها وكالة أنباء الطلبة الإيرانية (إيسنا): ” العراق ليس جزءً من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا، وهو عاصمتنا اليوم، وهذا أمر لا يمكن الرجوع عنه لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء “، فهذا التصريح الخطير شاهد صريح على حجم أحقاد وأطماع إيران في العراق.
إن العراق اليوم قد أصبح ساحة لخوض حروب النيابة، فأمريكا وحلفاؤها جعلوه ساحة لمقاتلة خصومهم جميعاً بمن فيهم إيران، وإيران جعلته ساحة لخوض حرب على أمريكا من جهة والدول العربية من جهة ثانية، فهي تصيب الكثير برصاصة واحدة، وللأسف يقال بمرارة: إن إيران نجحت إلى حد كبير في تحقيق أهدافها، وتفعيل سياستها المرسومة، وذلك عن طريق الأجندة الطائفية التي تدير بها البلاد، فهي تمسك بحبل (المظلومية) التاريخية المزعومة، وتلقيه فيتشبث به الآلاف معلنين ولاءهم لإيران تحت شعار (نصرة المذهب)، وقد تشكلت تحت هذا الشعار قوى عديدة، يجمعها الولاء لإيران كقاسم مشترك، ومن أمثلة هذه التشكيلات، (عصائب الخزعلي) و (بدر العامري) و (الحشد الطائفي)، وغيرهم كثير، وكل هؤلاء يعملون تحت إمرة رجل واحد هو قاسم سليماني، الذي يقود دفة هذه التشكيلات ويرسم لها حركتها وسياستها، ويعينهم في ذلك زمرة من الساسة المأجورين الذي يعملون كأبواق تصيح وتولول كل حين، وتعمل بنفس الطريق الذي تعمل فيه المليشيات السائبة، فتلك تعمل على نصرة المذهب بطريق المظلومية المذهبية، وهذه تعمل أيضاً بدعوى نصرة المذهب بطريق المظلومية السياسية، ويقتل الأبرياء في العراق من مختلف الأطياف والمكونات تحت سطوة هاتين المظلوميتين المزعومتين.
إن هذه السياسة هي المعروفة بسياسة (إدارة التوحش) الطائفي، التي تختلق فيها الأزمات والذرائع الطائفية لتسفك بها الدماء، وتغتصب الحقوق، وتسلب الأرض والديار تحت وطئتها، وهذه هي السياسة التي يدار بها العراق الآن، وقد حققت العديد من أهدافها في هذه الأيام، وفي جعبتها العديد من الأهداف لم تتحقق بعد، وسيسعون جاهدين لتحقيقها، فليعِ الجميع هذه السياسة، وليفهم أبناء العراق استراتيجيتها لمقاومتها ودفع خطرها، قبل أن يستطير شررها، ويعظم خطرها، ولا يستطيع أحد آنذاك الوقوف أمام زحفها، والوقاية خير من العلاج.