19 ديسمبر، 2024 2:17 ص

سيادة السارد المطلق :رشيد الضعيف : ( تبليط البحر)

سيادة السارد المطلق :رشيد الضعيف : ( تبليط البحر)

في رواية (تبليط البحر) للروائي رشيد الضعيف، نلاحظ أن السارد المطلق يحكم قبضته على رواية، بسعة (202) صفحة من أول صفحة إلى ما قبل النهاية، وينوب – الأصح يصادر أصوات الشخصيات – هذه السيادة السردية المطلقة: تتسبب بفتور التلقي،بل أن السارد المطلق يحوّل حوارات الشخصيات في الغالب، إلى سرد، ويبثها للقارىء، أن عملية التدوير هذه تتسبب في ترهل التلقي لدى القارىء .ومثلما صادر السارد المطلق : صوتيّ يورما وبيلات سيصادر صوت ساوا وهي تسرد وجيز سيرة أهلها في ص187 لكن السارد المطلق سينقل لنا وجيز سرد والد ساوا إلى ساوا عن معانات الشغيلة الصينيين،في منتصف ص188 وص189
(*)
نلاحظ أن فاعلية السرد،بتوكيل من المؤلف رشيد الضعيف، مناطة بالسارد المطلق، وهذا السارد بمثابة قرين للشخصية الرئيسة، مَهدَ لها السارد المطلق قبل ولادتها بعشرين صفحة وبعد وفاتها، بما يقارب العدد نفسه من الصفحات . فنحن إذن أمام رواية سييرية، تولي الاهتمام الأكبر لشخصية فارس هاشم، شخصية تبذل جهداً عظيما في تصنيع سرد حياتها بقوة إرادتها الوطنية الوّثابة.. بهذا السطر تستقبلنا الرواية: (بدأت قصّة،، فارس هاشم،، قبل مولده إذن)
(*)
الزمن الروائي من العشرة الثانية من القرن التاسع عشر إلى 1925 وللرواية روزنامتها الخاصة، من الوثيقة، التي نضدتها روائيا وجعلتها : تحتوي مبشريين بروتستانت ومذابح طائفية وهجرة نحو الحلم الأمريكي.وتختلط البشارة البروتستانتية مع سطوة الدولة العثمانية على بلاد الشام ، بالتبشير والطائفية والهجرة وإضرابات الطلبة ومن هذه الخلطة المجتمعية يتم تصنيع سردية جديدة للمجتمع الشامي، يتمازج الوقائعي مع المتخييل: أسعد الشدياق، أحمد فارس الشدياق، جرجي زيدان، أمين فليحان.
(*)
تتبأر الرواية حول نقلة حضارية شامية،تشترط على روادها نقلة مكانية، يسهم فيها نخبة واعية ترى ضرورة الانفتاح على الآخر، وهنا أختلاف رواية (تبليط البحر) عن الروايات التي تعاملت بتوجس وعداء مع الآخر وقد تناولها الناقد جورج طرابيشي في كتابه(شرق وغرب،رجولة وأنوثة).. وهذا التعامل الجديد مع الآخر، لمسناه في (طشاري)* رواية إنعام كجاجي وعالية ممدوح في (التانكي)*و( النقطة الأبعد ) و(عندما تستيقظ الرائحة) للروائية دنى غالي
(*)
يتمازجان العام والخاص في (تبليط البحر) حياة فارس هاشم والآضطرابات الشامية،وحياته في المهجر وخوف الآخر من فارس، يتجسد بالمعارضة الشديدة لتلك العائلة الأمريكية حين يقيم علاقة مع أبنتهم. وسنلاحظ أن العام هو يسهم سلبا وايجابا في سرديات حياة فارس وأحلامه الوطنية
(*)
في تلك الفترة، العشرة الثانية من القرن التاسع عشر، كان هناك من يشجّع على كسر النسق المجتمعي،منهم منصور هاشم حيث قصد َ وحده،منزل نسيم حمل، ليخطب ابنته زكية، فرفضته عائلتها، لكن سيوافق بعدها بمؤثرية أسكندر الذي شجعه (إن زوجتّ أبنتك إلى منصور فستكون مثال الرجل المتحرر والمتنور في كل لبنان وفلسطين والأردن والعراق…ستكون الرجل الذي زوّج أبنته لشاب طلب َ يدها بنفسه دون إيكال الأمر إلى أهله../19)..
(*)
التمرد على الأنساق، لم يكن عشوائيا، بل بمبادرة تنفيذية من رواد السرد الجديد منهم النهضوي أسعد خيّاط..(نهضويا يحلم بأن تتخلص بلاده من تخلفها .. ويدعو إلى تحرير المرأة وينادي بالأختلاط بين الرجال والنساء، وفي عرسه أجبر زوجته أن تقف معه في استقبال المهنئين والمهنئات، وكانت العادة أن تستقبل العروس المهنئات والعريس المهنئين ../20)ونكاية بالمجازر الطائفية، هناك خطوة ريادية تحاول سرداعلمانيا للتعليم، وهكذا يتربى نشأ جديد بعيدا عن التشدد الطائفي..(وكان منصوررغم إيمانه المسيحي العميق، يتمنى لو يستطيع تعليم أبنه في مدرسة المعلم بطرس البستاني،،المدرسة الوطنية،،) هنا يتدخل المؤلف رشيد الضعيف ويضيف (التي كانت علمانية – كما نقول اليوم/32) والمصدات الطائفية، يلغيها غضب الطبيعة
(فاجأ الناس ذات مساء مطر من الشهب، أرعب الناس الذين أختفوا في مخابىء بيوتهم، وكان الواحد منهم إذا ما فاجأه رشق من الشهب،يدخل إلى أقرب معبد ويحتمي به،فكنت َ تجد المسيحي والمسلم واليهودي في المعبد الواحد. صارت صلاة المؤمن على دينه غير كافية لرد المطر الكوني المنهمر على بيروت البهيجة. صارت صلاة المؤمن الآخر كأنها سند ضروري، كأنها ملء فراغ../60)
(*)
السارد المطلق يرصد التحولات المجتمعية منها في 1875 شبكة إسالة حديثة في بيروت
في الوقت نفسه لما يزور أمبراطورالبرازيل بيروت ويدعو الناس للهجرة ويزور المطبعة الأميركية وحين يزور كلية الطب يسأل سؤالا يثير إنتباه الطلاب والأساتذة الحاضرين
(الجثث كيف يؤتى بها ليتعلم الطلاّب مادة التشريح/ 49) هذا السؤال هو السؤال الصدمة الذي يهز وجدان فارس ! والموجع هو جواب ضابط الشرطة سعد الدين الجباوي (هي لنساء شابات ومسنّات قُتل بعضهن لغسل العار والبعض الاخر لأسباب مجهولة ومنهن من قُتلن بحجة غسل العار أدّعاءً وليس حقيقة ً وبكلام أكثر وضوحا كانت تُقتل نساء لبيع جثثهن ..وكان عدد الجثث العائدة إلى النساء التي ترد إلى الكلية أكثر بكثير من عدد الجثث العائلة إلى الرجال../50) ولا يقف الأمر عند هذا الحد. رجال الحكومة يقبضون حصتهم حتى تصل الجثة إلى قاعة التشريح، بل أكثر من ذلك فإنهم على علم بالجثث التي تسرق بعد دفنها بساعات : هذا السر باح به ضابط الشرطة سعد الدين الجباوي إلى فارس.ولم يتوقف الامر..(السلطات العثمانية كانت محرجة جدا،بسبب تكاثر الأخبار عن أختفاء الجثث في بيروت../71) ومؤثرية الحصول على الجثث يتقاطع في التلقي مع مشاعر الآخرين خصوصا أهل الميت / الميتة، فحين يعلم الاستاذ يوسف أن فارس وزملاءه لديهم جثة (أضطرب من فرحه بسبب الضيق الذي كانوا يشعرون به في الجامعة من ندرة ورود الجثث عليهم../72)
(*)
نلاحظ أن السارد المطلق يصادر أصوات شخصيات الرواية ويبتلع ألسنتهم حين يحول ملكية من ضمير المتكلم الذي استعملته البغي يورما للبوح عن سقوطها ، إلى ضمير الشخص الثالث، مثلما صادرت عائلة يورما شرفها فالسارد المطلق صادر صوتها، وأخلاقيا أساء لشعورها (وكان هذا ربما خطأ فارس الذي عذبه طويلا../60) وحين أختفت يورما(أحس فارس بالذنب../62) وسيتعرف فارس وهو في الاسكندرية على (بيلات) امرأة اختارت العهر بقناعتها، وفارس تدهشه صراحتها(لم يسمع فارس من قبل أنّ امرأة ً أمتهنت هذا العمل بإرادتها وهي فخورة به../108) ومثلما صادر صوت يورما، صادر صوت بيلات واختزل بوحها، ذلك البوح هو الذي اقنعها به، بوجيز سرد لا يتجاوز بضعة أسطر. وفي الصفحات الأخيرة من الرواية يتدارك الأمر المؤلف فيهب فرصة صغيرة، فنستمع مع ساوا إلى كلام والدها
(*)
أطلاعه المكثف على السرد السياحي للمدن، سلب َ لذة الدهشة من عينيّ ومشاعر فارس هاشم حين وصل نيويورك :(لم يجد فارس نفسه في عالم جديد،ليس لأنه مرّ في مرسيليا وفي باريس، بل لأنه كان يعرف هذه المدينة وكأنّه عائد إليها وليس ذاهبا إليها لأوّل مرة../129)..
(*)
إذا كان الروائي رشيد الضعيف في روايته (أوكي مع السلامة ) قد أضاء لنا ثريا نصه الروائي في ص8( أوكي مع السلامة) وهذا يعني ان عنوان الرواية يصنّف من العنوانات الأشتقاقية، كما تعلمنا من القاص والروائي العراقي البصري محمود عبد الوهاب في كتابه (ثريا النص)
فأن (تبليط البحر) مكث َ في غموضهِ حتى ص 97، حين يركب البحر لأول مرة فارس هاشم وجرجي زيدان وأمين فليحان وكان معهم على الباخرة مئات من المهاجرين يركبون البحر أول مرة بل غالبيتهم يرونه أول مرة .. فتباينت أحلام ايقظة الماء لدينهم، هناك من تمناه سهلا ليزرعه بطاطا، ومنهم من تمناه زيتا ليأكل به ( الكبّة النية) ومنهم من تمناه مياها صالحة للري ليروي بها كل الأراضي.. ولكن كلهم اتحدوا في رؤية واحدة، وهم يلامسون عتوه وصخبه لذا (وجد هؤلاء الجبليّون في البحر هائلاً ممتداً، ورأوا أن ما من أحد في الكون يمكن أن ،، بلّطه،، ومن هنا جاءت عبارة ،،بلّط البحلا،، بمعنى أنك عاجز عن أن ترد على التحدي../97)
ومن باب التأويل لقد بذل َ فارس هاشم جهدا هرقليا من أجل وطنه، بادر بتسليم جثث أقرب الناس إلى قلبه من أجل تطوير الطب في لبنان، كدح َ في الشوارع كبائع متجول في المهجر الامريكي، قاتل مع الجيش الامريكي كطبيب ضد كوبا ..تألق صيته الطبي وسبقته شهرته للوطن وفي طريق عودته مع زوجته إلى بلاده ليخدمها طبيا، تحول فارس هاشم جثة ً،وحين وصلت جثته للوطن ، سرقوها في الميناء زملاء المهنة ..إذن حاول فارس هاشم أن يسرد شخصه من خلال طموحاته.. لكن هناك سردية كبرى ستحرمه من تطبيب مرضى وطنه، وستحرمه من رؤية ولده البكر.. لكن السردية الكبرى ليس في مقدورها أن تغيّب جهدا نوعيا في الريادة
*رشيد الضعيف/ تبليط البحر/ دار رياض الريس/ بيروت/ ط1/ 2011
*محمود عبد الوهاب/ ثريا النص : مدخل لدراسة العنوان القصصي/ الموسوعة الصغيرة /ع 396/ دار الشؤون الثقافية / بغداد 1996
*بخصوص روايات : إنعام كججي / عاليه ممدوح/ دنى غالي: أحيل القارىء إلى مقالاتي في : الحوار المتمدن/ معكم/ الناقد العراقي/ مركز النور/ كتابات/ بصرياثا/ موقع الحزب الشيوعي العراقي

أحدث المقالات

أحدث المقالات