ترتبط عوالم سولجينيتسين الفنية قبل كل شئ ( كما هو معروف ) بواقع السجون السوفيتية الرهيبة ايام حكم ستالين في الاتحاد السوفيتي , وهذه الاجواء طبعا بعيدة جدا عن عوالم تشيخوف الفنية , الذي توفي عام 1904 في الامبراطورية الروسية آنذاك , اما سولجينيتسين فقد ولد عام 1918 , اي بعد عام من ثورة اكتوبر 1917 , ولهذا , فان النقد الادبي الروسي لم يتحدث عن هذين الاسمين ( اي سولجينيتسين وتشيخوف ) معا ضمن بحوث الادب المقارن , رغم انه كانت هناك بعض الآراء ( والتي تكاد ان تكون شبه مستقرة ) حول عدم تناغم ( بتعبير مخفّف !) سولجينيتسين مع ادب تشيخوف بشكل عام , اذ لا توجد بينهما فعلا جوانب مشتركة او حتى متقاربة . لقد حاول سولجينيتسين دائما ان يقارن نفسه بتولستوي ودستويفسكي ( وهذه مسألة تتحمّل النقاش طبعا , اذ ان هناك آراء ومواقف متباينة تماما بشأن هذه المقارنة , وحتى مضادة لذلك , ولكن الموضوع بعيد عن مقالتنا) , الا ان سولجينيتسين لم يقترب من تشيخوف بشكل عام , منذ بداية ظهوره المدوّي ( يوم واحد في حياة ايفان دينيسوفتش) في الاتحاد السوفيتي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات والى القرار السوفيتي الرسمي بنفيه من الاتحاد السوفيتي في عام 1974 , واستمر الموقف من تشيخوف هكذا ايضا طوال فترة مكوث سولجينيتسين خارج الاتحاد السوفيتي , الا ان الوضع تبدّل بعد انهيار النظام السوفيتي عام 1991 وعودة سولجينيتسين الى روسيا الاتحادية عام 1994 , وهكذا بدأت تظهر – بالتدريج – آراء كثيرة في النقد الادبي الروسي تتناول العلاقة الفكرية بين سولجينيتسين وتشيخوف , وتوجد الان مصادر روسية عديدة ومتنوعة تتناول هذه العلاقة الفكرية بينهما. ان هذا الموضوع غير واضح المعالم للقارئ العربي المهتم بمسيرة الادب الروسي , والمتابع لتفاصيل العلاقات الفكرية بين أعلامه , ونظن , انه موضوع يستحق ان نتوقف عنده قليلا, وان نقدّم الملامح الاساسية له في الاقل .
اصبح سولجينيتسين بعد عودته الى روسيا عام 1994 نجما ساطعا جدا في سماء الفكر الروسي , وعندما احتفل مسرح موسكو الفني بالذكرى المئويه لتأسيسه عام 1998 , قرر اقامة تمثال لتشيخوف امام بنايته القديمة في مركز موسكو , اذ ترتبط مسرحية تشيخوف ( النورس) , كما هو معروف , بمسيرة هذه الفرقة المسرحية العتيدة ( لازال طير النورس مرسوما على ستارة المسرح لحد الان وفي بنايته الجديدة ايضا ) , وتم دعوة سولجينيتسين للمشاركة بحفل تدشين تمثال تشيخوف والقاء خطاب بهذه المناسبة , باعتباره من ابرز الاسماء الادبية الروسية آنذاك , وقد أشارت الصحف الروسية في حينها , ان سولجينتسين يذكّر بدستويفسكي عندما ألقى خطابه الشهير عند افتتاح تمثال بوشكين في موسكو , وتوقعوا ان يكون خطاب سولجينيسين بمستوى خطاب دستويفسكي المذكور, وسيتحول بالتالي الى وثيقة من وثائق الادب الروسي وتاريخه مثل خطاب دستويفسكي, وألقى سولجينيتسين الخطاب فعلا في حفل افتتاح تمثال تشيخوف , الا ان خطابه عن تشيخوف هذا لم يتحول الى وثيقة جديدة في مسيرة تاريخ الادب الروسي , ولم يكن بمستوى خطاب دستويفسكي عن بوشكين باي حال من الاحوال. كانت مناسبة افتتاح تمثال تشيخوف ترتبط بمسرح موسكو الفني , والدور المتميّز لتشيخوف باعتباره كاتبا مسرحيا في تاريخ هذه الفرقة المسرحية , الا ان سولجينيتسين لم يتطرق حتى الى مسرح تشيخوف في كلمته تلك . لقد أثار موقف سولجينيتسين هذا تعليقات كثير من الباحثين الروس , وقد أشار احدهم قائلا , ان تولستوي لم يكن يتقبّل مسرح تشيخوف , وان سولجينيتسين اراد ان يكرر موقف تولستوي . باحث آخر أجابه , ان تولستوي كان يعتبر تشيخوف قمة من قمم الادب الروسي , لا يمكن مقارنتها بتورغينيف او دستويفسكي او به ( اي بتولستوي نفسه) .
نشر سولجينيتسين في ذلك العام نفسه ( 1998) مقالة عن تشيخوف في مجلة (نوفي مير) تناول فيها مجموعة من قصصه , وهي المقالة الوحيدة عن تشيخوف بقلمه . عنوان المقالة طريف جدا وهو – (الغوص في تشيخوف) , وقد اقترح أحد زملائي ترجمته هكذا – ( الغوص في بحر تشيخوف) , وقال تبريرا لاضافة كلمة (بحر) , ان الانسان لا يمكن ان يغوص في بركة ماء او في نهير , وان تشيخوف هو بحر , فقلت له , ولكن سولجينيتسين لن يوافق على هذه الاضافة , وانه كان يمكن له ان يضيف كلمة ( بحر) لو اراد ذلك , فقال صاحبي ضاحكا – يبقى تشيخوف بحرا من وجهة نظري , سواء وافق سولجينيتسين ام لا. ضحكت أنا , وقلت له , ان موقفك كمترجم غير صحيح , وذكّرته بالقول العربي الشهير – ناقل الكفر ليس بكافر.
تعليقات الباحثين الروس كانت عديدة حول خطاب سولجينيتسين عن تشيخوف وعن مقالته حوله, نختتمها بتعليق أ.د. كاتايف ,
رئيس قسم تاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر بكلية الفيلولوجيا في جامعة موسكو,والذي يعدّ واحدا من أبرز المتخصصين الروس بابداع تشيخوف , الذي كتب يقول –… سيقرر الزمن من هو الكاتب الذي سيختاره القراء مستقبلا…