دجلة والفرات نهران في العراق , وهما أبهراه , وفي واديهما إنطلقت الخطوات الحضارية وترعرعت غابات النخيل الفيحاء , التي أطعمت الأجيال ومنحت العزة والقوة والكرامة والإباء.
ومنذ أن ترعرعنا على تراب وطن الرافدين , وقصص وروايات الفيضانات تتردد في المسامع , وما شهدتُ منها إلا فيضانا واحدا في زمن الطفولة , إذ كنا نرى المياه المتعاظمة عند سدة سامراء وما تحمله من ممتلكات الناس التي يمكنها أن تطوف , بعد أن جرفت بيوتهم ومزارعهم وحيواناتهم بل وحتى بشرهم , فكانت القصص ترعبنا أحيانا.
وفي سبعينيات القرن العشرين عندما كنا طلبة لأول مرة أخذنا نسمع عن جفاف أحد النهرين وهو الفرات بعد أن قطعت سوريا المياه عنه , وكانت الصور تًظهر كيف يتم عبور النهر سيرا على الأقدام , وكيف أن الجفاف صار آفة مروعة , مما دفع بعدها لشق نهر ثالث لتغذية نهر الفرات من نهر دجلة.
ومنذ ستينيات أو ربما خمسينيات القرن العشرين وتركيا تتوعد بإنشاء سدٍ كبير على نهر دجلة , وحسب ما نقرأ في الكتب كانت هناك تهديدات بتدميره منذ زمن أول حكم جمهوري في العراق , لكن تركيا مضت في مشروعها , والعراق لم يفعل شيئا للتحوط من إحتمالات الخطر القادم.
وبعد ألفين وثلاثة والأخبار والصحف تتحدث عن قطع إيران للعديد من الأنهار التي تغذي أرض العراق , وما وجدنا إلا التجاهل والتمرير بل الإنكار والتسويغ والدفاع عن هذا السلوك الذي أضر بأراضي الجنوب العراقي والأهوار.
وهذه دول تفكر بمصالحها ومشاريعها الإستثمارية , ونحن وكأننا لا ناقة لنا ولا جمل في البلاد ,
واليوم هناك زوبعة عنيفة من الردود الإنفعالية على قلة المياه أو حجزها , وأخذنا نقرأ مقالات الندب وذرف الدموع وبث الآهات والتخويف والترعيب والوعد بأقسى الأيام , وربما سنجد مَن يشجع المساكين المغفلين على الموت عطشا ليفوزوا بجنات النعيم!!
وما قرأنا مقالة أو تصريحا يضع الإصبع على جوهر المشكلة , فالكل يمتطي صهوة ردود الأفعال الإنعكاسية , وهي نمطية سلوكية جاثمة على السلوك الحكومي والمجتمعي منذ تأسيس دولة العراق وحتى اليوم.
ولكي نرى المشكلة بوضوح ونجد حلولا لها لا بد من طرح أسئلة , ربما ستوقظنا من غفلتنا وتعيدنا إلى نهر الحياة.
فهل إحترمنا النهرين؟!!
هل إستثمرنا في مياههما؟!
هل لدينا ثقافة مائية وبيئية؟
هل حرصنا على الماء؟
هل تحوطنا للإحتمالات؟
هل فكرنا بالأمن المائي والغذائي؟!
هل تعلمنا من الصين كيف تشق أنهارها الموازية؟!
هذه الأسئلة وغيرها نادرا ما طرحناها على أنفسنا على مدى أكثر من قرن , ولا زلنا نرفع رايات “هو” عندما تواجهنا مخاطر مصيرية كبرى , والفساد يستشري والنهّابون يتمادون بالإستحواذ على ثروات البلاد والعباد.
فتحدي الأمن المائي كان قائما منذ عقود وعقود ويطل علينا بين حين وحين , ولا قدرة عندنا سوى أن ننفعل ونغضب ثم نستكين ونتناسى.
فهل أنجزنا مشروعا واحدا لمواجهة هذا التحدي منذ بداية هذا القرن؟!
ألم تكن مشاريعنا بكائيات ولطميات ومسيرات ذرف دموع وجلد ذات ولأكثر من عشرة مرات في العام؟!!
ماذا أنجزنا لمواجهة التحدي؟!
لا نملك إلا أن ندعو إلى صلاة الإستسقاء!!!
وما فكرنا بآليات معاصرة عن كيفيات الوقاية من قلة المياه , وما هي مهارات وسلوكيات إقتصاد المياه , بل أن قلة المياه والجفاف صارت من أساليب الحكم مثلما هي الكهرباء , فالبشر يُحكَم بالحاجات وبالحرمان من الكهرباء , وكلما إهتزت الكراسي تعاظم الحكم بالحاجات , وها هي اليوم ستحكم بالحرمان من الماء!!
فلا يوجد تفسير آخر للتغاضي عن تحديات مصيرية قائمة تحف بالبلاد والعباد على مدى عقود , والإمعان بإشغال الناس بالتفاهات والسخافات والأضاليل والبهتان والتصارع على السلطان.
فمعظم حكومات العراق تعيش في صوامع مسوّرة ومنعزلة عن الناس , فهي تحكمهم ولا تعرفهم , وتدير شؤون بلادٍ لا تمت إليها بصلة إيجابية , وإنما تحسب ما حولها عدوان , فالمنصب هو الغاية والعنوان , والفساد من الإيمان , ولهذا تحصنت وشيدت الحواجز والجدران , وتصفحت عرباتها , وتجاوزت حمايات أفرادها الآلاف من الأعوان.
إن الإقتراب الموضوعي من هذا التحدي الفتاك يستوجب وقفة متكاتفة واعية عالمة ذات خبرات معرفية هندسية إبتكارية , لإنشاء مشاريع متنوعة للحفاظ على أكبر نسبة مما يتوارد إلى النهرين من المياه , كإنشاء السدود والخزانات , والإستفادة من مياه الأمطار بإقامة البحيرات والمنخفضات التي تحويها والإستثمار فيها.
فلا بد من تنشيط الأذهان وتحفيزها والعراق يزدحم بالعقول , التي ستبتكر برامج إروائية وتخزينية وإستثمارية في المياه.
فالتحدي يدعو للإستنفار لا للإستنكار , وللإبتكار لا للإحتضار , ومن الواجب الوطني أن نستشعر بخطورة شحة المياه وبكيفيات توفيرها , وبآليات التفاعل مع النهرين الخالدين , بكل ما تعنيه الكلمة , فلنحترمهما ونعزهما لكي يساهما في التحدي , وسينتصران على العدوان عندما نكون معهما لا عليهما.
فلنتوقف عن العويل والبكاء وإلقاء اللوم على الآخر , والبلاد مبتلاة بحكومات ساذجة خرقاء يديرها البُقلاء , من أصحاب التبعية والولاء , وكأن كل كرسي فيها يحتضن مومياء , فهل وجدتم لجرح بميت إيلامُ؟!!
فحيّوا دجلة الخير لتحيًكم وتُحيِكم , فالأنهار تترجم إرادة أهلها!!