بقلم: جمال قارصلي و طلال عبد الله جاسم
المأساة السورية تزداد تشابكا وتعقيدا مع تزايد تدخل القوى الإقليمية والدولية في الشأن السوري، حيث أن الوضع في سوريا تحول إلى أكبر كارثة إنسانية في هذا القرن. لقد تجاوزت الحالة السورية ما يسمى ب “الصوملة” و “الأفغنة” و “اللبننة” و”العرقنة”. هذا التدخل السافر والشرس دوّل القضية السورية وجعل من أرضها ساحة لتحقيق المصالح وتصفية الحسابات، بينما أصبحت أصوات ومصالح الشعب السوري مهمشة إلى درجة الغياب الكامل والتجاهل المفرط من قِبل الدول المتدخلة. هذا التجاهل سلب من كل السوريين، نظاما ومعارضة وشعبا، سيادة القرار وجعل من سوريا دولة تحت الوصاية الدولية، دون وصي معروف.
الدول المتدخلة في الشأن السوري لديها مصالح وخطط تعمل على تحقيقها، ولكن مصالح هذه الدول تتضارب في أغلب الأحيان وتنسجم في أحيان أخرى. وما يحصل في إدلب والشمال السوري من تجاذبات بين اللاعبين الكبار يشير إلى أن الحلول المطروحة لن تكون في مصلحة السوريين، وهذا يحتم على السوريين أن يأخذوا مصالح وطموحات هذه الدول بعين الاعتبار، المعلن عنها والغير معلن، على انها حقيقة وواقع، ويجب التعامل معها والابتعاد عن المثاليات وعن التصورات الخيالية.
هذه الحالة الكارثية التي حلّت على الشعب السوري تتطلّب من جميع السوريين أن يضحوا أكثر من السابق وأن يتنازلوا عن أنانيتهم وأن يتسامحوا فيما بينهم وأن يعملوا سوية من أجل إنقاذ وطنهم، وأن يبتعدوا عن التفكير عبر نظرية المؤامرة التي تحمّل الآخرين مسؤولية كل الشرور، دون الإشارة إلى واجباتهم التي تقع على عاتقهم من أجل وضع بلدهم على السكة الصحيحة للنجاة. ورغم ان الثمن الذي دفعه الشعب السوري باهظ جدا، ولكن عليه أن يدفع أكثر من أجل ايقاف الحرب اولا لكي يستطيع بدء العمل لتحقيق الحرية والكرامة والديمقراطية والازدهار، وعليه أن يعلم بأن الطريق ليس مفروشة بالورود وانما بكل انواع المآسي والصعاب ولابد من التغلب عليها من أجل مواكبة الشعوب المتطورة. وهنا يقع على عاتق القوى الوطنية السورية أن تأخذ زمام المبادرة في يدها ليكون لها دورا فعّال في رسم مستقبل سوريا، والعمل على أن تجعل مصالح الدول المتدخلة في الشأن السوري تتقارب وربما تنسجم مع مصالح الشعب السوري ولو بالحد الادنى، من أجل الوصول إلى حل سريع للأزمة السورية. وبناء على ذلك فما على القوى الوطنية السورية التي تبحث عن الحل السلمي في سوريا إلا أن تأخذ هذه التشابكات والتعقيدات الدولية والإقليمية بعين الاعتبار وألا تتجاهل مصالح هذه الدول الفاعلة في سورية، وأن تعمل على الوصول إلى حلٍ تتقاطع فيه مصالح الدول الفاعلة مع المصلحة الوطنية السورية، لإقناعهم بمبدأ الاستثمار في السلام خير من الاستثمار في الحرب.
هنالك جهود دبلوماسية كثيفة تعمل على وقف إطلاق النار في سوريا وتهدئة الوضع فيها، مع اختلاف دوافعها وغاياتها ومنها على سبيل المثال، المحادثات في أستانا بين روسيا وإيران وتركيا، وكذلك مجموعة إعلان واشنطن أو المجموعة المصغرة التي تضم أمريكا وفرنسا وبريطانيا والمانيا والسعودية والأردن ومصر، إضافة إلى المناقشات الدائمة بين روسيا والولايات المتحدة وعلى أعلى المستويات. لكن بالرغم من كل ذلك، هناك حاجة إلى المزيد من المتابعة والاهتمام من أجل فهم المصالح الحقيقية والأساسية لهذه القوى الفاعلة، الإقليمية منها والدولية، وتطوير أفكارا حول كيفية الوصول مع هذه الدول إلى صيغة حل يمكن من خلاله إزالة التصعيد وإنهاء النزاع بأسرع وقت ممكن.
إن مشاركة النخب المثقفة من السوريين في الوصول إلى حل للصراع في سورية هي ضرورة ماسة من أجل زيادة فرص المجتمع السوري في الدفاع عن مصالحة بشكل فعّال، حيث أن حوالي 80% من المجتمع السوري يفتقر إلى من يمثله في العمليات السياسية والمفاوضات الدائرة في جنيف أو أستانا، وأن أغلبية الشعب السوري ليس مع النظام ولا مع المعارضة السياسية أو المسلحة، بل هو القسم الأكبر الصامت على أفعال وممارسات الجهة التي تسيطر على أماكن تواجده وتواجد أقاربه لأسباب عدة ومنها الخوف من الانتقام وربما من أطراف عدة.
إن مجموعة من الحكماء والخبراء السوريين والسوريات الذين لديهم خبرات طويلة وتفكير مبتكر ومواقع محترمة في مجتمعاتهم ويمثلون الجغرافيا السوريا ومكوناتها بنظرة واقعية ووسطية، تستطيع العمل على وضع خطط توافقية للمصالح المشتركة بين كل دولة لها تأثير في الأزمة السورية ومصالح الشعب السوري، حيث بإمكانها أن تصيغ مقترحات مناسبه لحل يكون بمثابة “مكسب للجميع” مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الأخرى. على هذه المجموعة أن تصيغ مقترحات وحلول للأزمة السورية مع كل دولة مؤثرة في الشأن السوري لكي تسهل الحوار والتفاوض بين الأطراف السورية والقوى الخارجية. هذه المجموعة تحتاج إلى دعم من خبراء ومختصين من مختلف الاختصاصات ومن عموم الشعب السوري.
أهم التطمينات التي يجب أن تقدمها هذه المجموعة إلى الدول الفاعلة في سوريا هي التالية:
– لا بد من أن تتحوّل سوريا إلى دولة حيادية، حيث تصبح لا مقرا ولا ممرا لتهديد دول الجوار.
– يجب أن يكون الحكم شبه رئاسي أو برلماني، ويلتزم بتحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة. وتحويل الجيش الى جيش احترافي لا عقائدي والأمن إلى مؤسسة تحمي أمن المواطن في الداخل وأمن الدولة من الخارج.
– التأكيد على ديمقراطية وعلمانية وحيادية سوريا المستقبل أمام جميع مواطنيها والتي سيكون لها دورا كبيرا في تقارب السوريين فيما بينهم وتجنب الكثير من التوتر بين مكونات المجتمع.
– العمل على الانفتاح الاقتصادي مع دول العالم والتركيز على اللامركزية الاقتصادية داخليا، وعدم احتكار طرق مرور الطاقة أو البضائع أو المياه، حيث سيلعب هذا دورا هاما في إيجاد الحل للأزمة السورية وخاصة إن كان ذلك مدعوما بضمانات قانونية أو حتى دستورية.
على السوريين أن يتعاملوا بشكل جاد ومحترف وبعيدا عن العواطف والأمنيات من أجل إقناع الدول الفاعلة بأن الاستقرار في سوريا سيضمن مصالحها الإستراتيجية. هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار بانه هنالك مصالح ذات بعد دولي وليس للسوريين إمكانية التأثير عليها، وهنا نحتاج الى الحنكة السياسية والدبلوماسية الرفيعة من أجل الخروج من مطبات المصالح المتناقضة أو التخفيف من تأثيرها على عملية إحلال السلام، لابد من الالتزام بموقف الحياد حتى يستطيع السوريون التصدي للمصالح الدولية ذات الطابع الاستعماري، والمغلفة بمصالح مشروعة، وهذا متعارف عليه في العلاقات الدولية، وكذلك التصدي للمصالح الدولية التي تجد في استمرار الحرب هدفا لها في تحقيق مطامعها الإستراتيجية الغير مبررة.
لابد للسوريين من ان يضعوا ثقتهم في مجموعة من الحكماء والخبراء السياسيين السوريين للقيام بعمل شاق مع الدول المتدخلة، من أجل إقناعها بالحوافز الاقتصادية الكامنة في حالة تحقيق السلام، عوضا عن الاستثمار في الموت والدمار ودعم لاعبين محليين بعيدين كل البعد عن تطلعات السوريين وآمالهم.
يجب أن يكون أعضاء هذه المجموعة محل ثقة وذوي مصداقية، وأن تكون لديهم الخبرة والمقدرة على القيام بهكذا عمل كبير وهام وغير مضمون النتائج، ولكن يجب دعمهم وتقبل وجهات نظرهم التي قد لا تعجب الكثيرين، لان لغة العقل والمنطق في بعض الأحيان تكون بعيدة جدا عن لغة العاطفة التي لا توصلنا إلى أية نتيجة، ويجب أن يتقبل السوريون واقعهم بأنهم مختلفون فيما بينهم، وعليهم أن يديروا خلافاتهم بحكمة. عليهم أن يصغوا لبعضهم البعض وأن يأخذوا بعين الاعتبار ما يريده الشريك الآخر، لا ما يجودون به عليه، هذا من حيث المبدأ، ولابد من شخصيات حكيمة ومتمرسة وبعيدة عن الشعبوية، وتعرف كيف تخاطب الدول وتكسب ثقتها، بحيث تنظر اليها الدول كشريك مستقبلي لا تابع. هنا سنستعرض أهم مصالح الدول المؤثرة وفق وجهات نظر سورية مختلفة، وماذا تريد تلك الدول من سوريا، وماذا يمكن لنا ان نقدمه نحن كسوريين لهذه الدول، وما هي مصالحنا المشتركة مع الدول الفاعلة، وما هي ادوات كل دولة في التأثير على الحرب والسلام في سوريا. لا يسعنا هنا إلا أن نشير وننوه بأن التحليل والوصف وفهم الدوافع والمصالح لا يعني التبرير لأي طرف كان أو شرعنه مقصودة لأية فكرة كانت. الدول المتدخلة لا يهمها ما يسعى إلى تحقيقه السوريون، الا إذا اقترن ذلك بمصالحها.