23 ديسمبر، 2024 5:14 ص

سورة الفاتحة من الآية 3 إلى الآية 4

سورة الفاتحة من الآية 3 إلى الآية 4

قوله تعالى: الرحمن الرحيم: كرر سبحانه هذا المقطع مرة أخرى لإجل إيصال النتائج الفاصلة بين الرجاء والخوف الظاهر من خلال ما يشتمل عليه السياق من ملامح الحمد الواقع بين رحمتين مما يجعل اقتصاره على لفظ الجلالة أكثر بياناً إذا ما نظرنا إلى المنطوق العام للسورة، وهذا ما يقرر مدى استحقاقه جل شأنه للحمد وعلاقته الطردية مع الرحمة التي يهبها لعباده. فإن قيل: ألا يخل التكرار بالجانب البلاغي للقرآن الكريم؟ أقول: إذا كان التكرار لغير فائدة فمن الطبيعي أن يخل بالجانب البلاغي، أما إذا كان لفائدة تحقق المطلوب فلا يعد تكراراً مملاً وهذا ما دأب عليه القرآن الكريم، ولو تأملنا المتفرقات التي يكثر فيها التكرار نعلم أن الغرض منه يكمن في مجموعة من الأسباب أهمها التذكير الذي بني عليه الشرع وذلك لأجل إتمام الحجة على المعاندين من جهة ومن جهة أخرى يرسّخ الفكرة في قلوب المؤمنين، وقد نجد فيه دلالات أخرى تجعل اللفظ خاضعاً للصيغة التقريبية التي لها ارتباط بالأسئلة المفترضة، وسيمر عليك هذا المعنى في العلة الناتجة من تكرار الصراط المستقيم من خلال تفسير السورة التي نحن بصددها.

ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً أود أن أشير إلى بعض الأمثلة التي تبين أسباب التكرار، وأهم تلك الأمثلة ما ذكره تعالى حكاية عن فرعون في قوله: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب… أسباب السماوات) غافر 36- 37. فههنا كرر سبحانه الأسباب مرتين في نفس السياق علماً أن الكلام يمكن أن يستقيم بواحدة، ويكون التقدير “يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ أسباب السماوات” إلا أن هذا لم يرد وذلك لأجل أن يُظهر المفاجأة التي حصلت لهامان والتي جعلته يردد السؤال وكأنه يقول أي أسباب هذه التي تريد أن تبلغها، وكما ترى فإن هناك حديثاً طويلاً قد دار بينهما، ويمكن أن نستنتج ذلك بواسطة تكرار لفظ الأسباب الذي اختزل القصة بكاملها، ولو لا ذلك لما تبادر إلى ذهن المتلقي هذا المعنى. ومنه قوله تعالى: (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا… قوارير من فضة قدروها تقديراً) الإنسان 15- 16. وكذا قوله تعالى: (أولى لك فأولى… ثم أولى لك فأولى) القيامة 34- 35. وقوله: (والسابقون السابقون) الواقعة 10. وكذلك قوله: (فإن مع العسر يسراً… إن مع العسر يسراً) الشرح 5- 6.

وهذا النوع من التكرار لم يبتدعه القرآن الكريم لأنه كان معتمداً من قبل أفصح الناس لساناً، سواء أكان ذلك في النثر أو الشعر، وقد نجد هذا التكرار في قصيدة لأبي النجم العجلي يقول فيها:

أنا أبو النجم وشعري شعري… لله دري ما أجن صدري

تنام عيني وفؤادي يسري… مع العفاريت بأرض قفري

وله أيضاً:

واهاً لريا ثم واهاً واهاً… هي المنى لو أننا نلناها

وذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني مجموعة من الأبيات لمالك بن الريب وهو من الشعراء الذين لم تكن لهم شهرة عريضة، وقد كرر في تلك الأبيات لفظ الغضا أكثر من خمس مرات، ومن أبيات قصيدته:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة… بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه… وليت الغضا ماشى الركاب لياليا

لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا… مزار ولكن الغضا ليس دانيا

من هنا يظهر أن الله تعالى قد كرر قوله: (الرحمن الرحيم) لأجل أن يكون بمنزلة الأمان الفاصل للرهبة التي سبقت في قوله: (الحمد لله رب العالمين) وهذا من دأب القرآن في الجمع بين الرهبة والرغبة، وقد نجد هذا الأسلوب في كثير من متفرقات القرآن الكريم دون نسبة الترهيب مباشرة للحق سبحانه، كما في قوله: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم… وأن عذابي هو العذاب الأليم) الحجر 49- 50. ومنه قوله تعالى على لسان الجن: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) الجن 10.

قوله تعالى: مالك يوم الدين: لا نريد الدخول في الجدال المفضي إلى التفريق بين قراءة ملك ومالك لأن هذا يخرجنا عن البحث المقرر للآية باعتبار أن المصطلحين فيهما دلالة على الملك والتصرف لا سيما إذا كان المعنى يتعلق بالحق سبحانه، لأنه المالك لكل شيء على وجه الحقيقة دون الملك الاعتباري سواء في الدنيا أو الآخرة، وفي هذا الصدد يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير: اعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا، وسنوه كالفراسخ وشهوره كالأميال، وأنفاسه كالخطوات، ومقصده الوصول إلى عالم أخراه، لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات، فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض والسماوات، فلينظر أنه كيف يكون عجائب عالم حال الآخرة في الغبطة والبهجة والسعادة، إذا عرفت هذا فنقول قوله: (مالك يوم الدين) إشارة إلى مسائل المعاد والحشر والنشر، وهي قسمان: بعضها عقلية محضة، وبعضها سمعية، أما العقلية المحضة كقولنا: هذا العالم يمكن تخريبه وإعدامه، ثم يمكن إعادته مرة أخرى، وإن هذا الإنسان بعد موته تمكن إعادته، وهذا الباب لا يتم إلا بالبحث عن حقيقة جوهر النفس، وكيفية أحوالها وصفاتها وكيفية بقائها بعد البدن، وكيفية سعادتها وشقاوتها، وبيان قدرة الله عز وجل على إعادتها، وهذه المباحث لا تتم إلا بما يقرب من خمسمائة مسألة من المباحث الدقيقة العقلية.

وأما السمعيات فهي على ثلاثة أقسام: أحدها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة وتلك العلامات منها صغيرة ومنها كبيرة، وثانيها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة، وهي كيفية النفخ في الصور، وموت الخلائق، وتخريب السماوات والكواكب، وموت الروحانيين والجسمانيين، وثالثها: الأحوال التي توجد بعد قيام القيامة وشرح أحوال أهل الموقف، وهي كثيرة يدخل فيها كيفية وقوف الخلق، وكيفية الأحوال التي يشاهدونها، وكيفية حضور الملائكة والأنبياء عليهم السلام وكيفية الحساب وكيفية وزن الأعمال، وذهاب فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، وكيفية صفة أهل الجنة وصفة أهل النار، ومن هذا الباب شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار والأعمال التي يباشرونها، ولعل مجموع هذه المسائل العقلية والنقلية يبلغ الألوف، من المسائل، وهي بأسرها داخلة تحت قوله: (مالك يوم الدين) انتهى.

ويمكن أن نستشف من كلام الفخر الرازي أن هناك ردا مبطناً لأصحاب الآراء الساذجة الذين يريدون اقتصار التفسير على رأي واحد، ولا أعلم كيف تناسى هؤلاء تعدد العلوم الشرعية بنوعيها العقلي والنقلي، وكذا ما يمكن ملاحظته من اختلاف الأذواق في المأكل والمشرب والملبس، وما إلى ذلك من الطرق التي يألفها الناس على اختلاف مللهم ونحلهم، وليت شعري كيف يتقبل هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفققهون قولاً أن يُختزل هذا الكم الهائل من المعلومات في قول إنسان بعينه، فهل بعد هذا الجهل جهل، ومن هنا يمكن القول إن الوصول إلى الحقيقة المطلقة لا يمكن الإحاطة به من خلال هذا التعبير، لأن المالكية لا تدخل في الزمان أو المكان، ولهذا اختلفت الألفاظ والمصطلحات التي يعرضها القرآن الكريم عن الأيام التي تخضع للعندية الإلهية، كما في قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج 4. وكذا قوله: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون) الحج 47. وأنت خبير بأن الآيتين أشارتا إلى اختلاف عدد الأيام وهذا قد يؤول إلى مقدار العمل والتكليف الذي تتوسط به الملائكة.

من هنا نفهم أن قدرة الإنسان على الإحاطة بيوم الدين قد تكون أقرب للقياس مع الفارق إذا ما أردنا مقارنة ذلك بعلم الله تعالى وما يؤول إليه من طرق الحساب والمراحل التي تمر بها الخلائق وصولاً إلى تقسيم الناس ودخولهم الجنة أو النار، وبهذا يظهر فساد من ذهب إلى أن الله تعالى قد خصص مالكيته ليوم الدين لأن في الدنيا يوجد من ينازعه في الملك، ويمكن أن يرد هذا الرأي بقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) آل عمران 26. وكذا قوله: (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) يوسف 76. وفي هذا دليل على أن الإنسان لا يمكن أن يستقل بالتأثير المباشر ما لم يخضع للسنن الإلهية التي تتحكم في مصالح الناس نظراً للطاعة أو العصيان فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن