يعرض القرآن الكريم مجموعة من الصور المشاهدة بطريقة تدعو لإزالة اللبس ودفع الإيهام، وأهم تلك الصور تتجسد في عقيدة البنوة المدعاة من قبل أهل الكتاب، إضافة إلى قولهم إن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى، ثم تظهر صورة أخرى تدعوهم إلى ما يثبت ذلك وأنت خبير بأن دليلهم في هذه الفرية لا يتعدى إلى أكثر من صياغة الأقوال المنتحلة التي يروجون من خلالها إلى عقيدتهم الباطلة والممتدة عبر أجيالهم ولذلك تراهم ينسبون أنفسهم إلى الله تعالى من حيث البنوة الحقيقية من جهة ومن جهة أخرى يجعلونها أقرب إلى البنوة الروحية، بمعنى أن الله لم يلدهم بصورة مباشرة بل جعلهم أقرب إليه من عامة الناس نظراً إلى حسن صنيعهم وما يترتب على ذلك من الأعمال النافعة التي يقومون بها، ولهذا كان اعتقادهم أن معاملة الله تعالى لهم لا تختلف عن معاملة الأب لأولاده، وهذا الادعاء بحد ذاته يصلح أن يحول بينهم وبين العذاب سواء في الدنيا أو الآخرة، ولذلك وجدوا أنفسهم في منأى عن جميع أنواع المعاناة التي يشعر بها الناس وكما تعلم فإن هذا الادعاء لا يقتصر على فريق واحد منهم بل يشملهما معاً، ومن هنا أشار الله تعالى إليهما في قوله: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) المائدة 18.
وكما ترى فإن الآية تدحض حجتهم باعتبار أن تحديد المصير لا يمكن أن يستقل به الإنسان، علماً أن القياسات النظرية لا تبتعد كثيراً عن المساواة الفعلية التي يتم بموجبها تمييز الخلق وتصنيفهم إلى محسن ومسيء ولا يزكي الأنفس إلا الله تعالى وهذا ما يستشف من ختام الآية آنفة الذكر، فليس هناك ما يدعو للتفاضل بين الناس، والآية كما تلاحظ فيها نوع من التوبيخ من ناحية وإبطال لفكرتهم من ناحية أخرى وبهذا يطوي الحق سبحانه ما كانوا يدعونه أو يعتقدون به، وقد لا يخفى على ذوي البصائر بأن اليهود لم يدعوا البنوة الحقيقية في أنبيائهم أو الصلحاء منهم كما هو الحال في النصارى، وإنما كانوا يطلقونها لغرض التشريف الذي يجدون فيه تمايزاً على غيرهم من الأجناس البشرية فيما يختص بقضايا الحساب التي تخضع للقوانين والأحكام باعتبار أن النسب يحول بينهم وبين العذاب، وقد يفهم هذا الادعاء من خلال متفرقات القرآن الكريم كما في آية سورة المائدة آنفة الذكر، وكما في قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة 111.
وعند تأمل الآية نلاحظ أن كل فريق منهم نسب المعنى إلى نفسه دون أن يكون القول آخذاً في جمع الألفاظ عن طريق واحد، ويمكن معرفة ذلك البيان بصورة أكثر وضوحاً إذا رجعنا إلى قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة 113. أي على الرغم من أنهم يتلون الكتاب الذي فيه تبياناً للحق إلا أنهم لم يظهروا ذلك الحق، ومن هنا نصل إلى توبيخ الله تعالى لليهود بسبب ما كانوا يدعونه من التفوق العرقي أو أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة أي بعدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، وقد أشار الحق سبحانه إلى ذلك بقوله: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) البقرة 80. وسيمر عليك تفصيل هذا المعنى من خلال تفسير آيات البحث.
تفسير آيات البحث:
قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) البقرة 94. أي قل لهم يا محمد إن كانت لكم الدار الآخرة خالصة أي خالية من جميع المنغصات التي يتعرض لها الناس ويحاسبون على كل شيء صدر منهم سواء كان صغيراً أم كبيراً، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في ما تدعون لأن المؤمن الذي يعتقد أنه على هدى وصراط مستقيم لا يخاف الموت وذلك نظراً للنعيم الذي يستقبله والسعادة التي لا شقاء معها، وفي الآية توبيخ لهم بمعنى إن كانت لكم هذه المنزلة الرفيعة فالموت أفضل لكم من الحياة.
قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) البقرة 95. الآية تدل على أن لديهم علم بجميع ما قدموا ويقدمون من جرائم بحق الإنسانية من جهة، وكذلك فيها دليل على صدق القرآن من جهة أخرى، لأن الإخبار بعدم تمنيهم الموت لا يزال قائماً، ولهذا ختم تعالى الآية بقوله: (والله عليم بالظالمين) من سياق البحث.
قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) البقرة 96. ذكر تعالى الحياة بصيغة النكرة ليدلل على حرصهم عليها لأنها بالنسبة إليهم نهاية كل شيء، ووجه آخر فيه بيان لحقارة الحياة التي يحافظون عليها، أي مهما كان نوعها، ولهذا بين تعالى أن طول المدة التي يعيشها الإنسان في الدنيا لا تشفع له عند الله تعالى، أو ترفع عنه جزءاً يسيراً من العذاب، وقوله: (ألف سنة) من سياق البحث. ورد للتكثير وليس للتحديد أي أن عقاب الله الذي ينتظرهم لا يسقط بالتقادم، ولهذا ختم سبحانه الآية بقوله: (والله بصير بما يعملون) من سياق البحث.
فإن قيل: كيف نعلم أنهم لم يتمنوا الموت بقلوبهم؟ أقول: لو تمنوه بقلوبهم لجرى ذلك على ألسنتهم لأجل أن يكذبوا القرآن في إخباره عن الغيب من جهة، ومن جهة ثانية تكون لهم الغلبة في إطفاء أمر النبي (ص).
فإن قيل: ورد في معرض حديثك أن اليهود لم يدعوا البنوة الحقيقية لأنبيائهم أو الصلحاء منهم، فكيف يمكن الجمع بين هذا القول وبين قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله) في الآية 30. من سورة التوبة؟ أقول: هذه تسمية تشريفية أطلقها اليهود على عزير، وهو نفسه الذي يسمونه عزرا، تغيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ يسوع فصار عيسى ولفظ يوحنا فصار يحيى.. كذا قيل والله أعلم.
وذكر الطباطبائي في الميزان: إن عزرا هو الذي جدد دين اليهود وجمع أسفار التوراة وكتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصر ملك بابل الذي فتح بلادهم وخرب هيكلهم وأحرق كتبهم، وقتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم وما تبقى من ضعفائهم، وسيرهم معه إلى بابل فظلوا هناك ما يقرب من قرن ثم لما فتح (كورش) ملك إيران بابل شفع لهم عنده عزرا وكان ذا وجه عنده فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم وأن يكتب لهم التوراة ثانياً بعد ما افتقدوا نسخها وكان ذلك في حدود سنة 457. قبل المسيح على ما ذكروا فراجت بينهم ثانياً ما جمعه عزرا من التوراة. انتهى بتصرف يسير منا. والبحث مطول من أراده فليراجع تفسير الميزان.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن