يرى بعض الناس أن تكرار القصص في القرآن الكريم لا ينطلق من أسلوب الترادف المؤدي إلى وحدة المعاني في سياق الألفاظ، ولذلك عمد هؤلاء إلى التفريق بين الكلام النازل من الله تعالى وبين ما هو دون ذلك من النثر أو الشعر، لأجل التخلص من اشكالية المقاربة بين الكلامين، وهذا ما جعل بعض الباحثين يتجه إلى خلق الأعذار التي لا ترقى أن تكون بمنزلة المناصر لكتاب الله تعالى، ظناً منهم أن اختلاف السياق القرآني يجب أن يسير بطرق متوازنة في نهج مستقيم بعيداً عن الطبيعة النثرية التي نجدها في الأدب القصصي أو الأسلوب السردي الظاهر في الخيالات البشرية وما ينطوي تحتها من قيم مماثلة وصولاً إلى الشعر وقوانينه وما يترتب على ذلك من توفيق بين الحادثة التي يريد الشاعر الكشف عنها وبين الواقع الذي يعيشه، وهذا الاتجاه قد يكون مستحسناً لدى كثير من المحققين الذين كان همهم إخراج القرآن الكريم عن هذه القياسات، ولذلك ذهب جمع منهم إلى ربط الأحداث التي مرت بها الأمة بأحداث أخرى عاشها بنو إسرائيل في مواجهة فرعون من جهة وما جرى لهم بعد ذلك في التيه من جهة أخرى، ولهذا قيل إن التكرار يعالج الأحداث بطرق متباينة نظراً لما تمر به الأمة في مراحلها المختلفة وما يتفرع عنها من تبعات تدعو للإصلاح الذي يتناسب مع المواقف الآنية التي يعيشها المسلمون، وكما تعلم فإن هذا الواقع وإن كان يحمل شيئاً من الصحة إلا أن تحجيم القرآن بهذه الأسباب والموارد لا يمكن أن يحقق الغرض المرجو منه، ولأجل الوصول إلى هذا المعنى فمن الضروري أن تُستنطق المفاهيم القرآنية العامة حتى يتم الخروج بمصاديقها على الوجه الأمثل الذي يستوجب التكرار.
وبناءً على ما تقدم نفهم أن مصدر الكمال القرآني يتطلب ملاحقة الأحداث وإخراجها بصيغ متشابهة من أجل عدم تشتت الأفكار أو الذهاب بالمتلقي إلى ما لا يتناسب مع الطبيعة البشرية، أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم وإن كان فوق المستوى البشري في البيان إلا أن فيه مراعاة لمقتضى الحال، ومن هنا كان التكرار حقاً ملازماً للنهج القرآني، وذلك لأن التوجيه المباشر لا يمكن أن يستقر في نفس المخاطب إلا بتصريف الكلام والكشف عن مدلوله اللفظي من خلال السياق القرآني، وقد بين الحق سبحانه هذه الحقيقة في قوله: (ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفوراً) الإسراء 41. أي لقد كررنا في هذا القرآن من كل الشواهد المؤدية إلى تبيان العقيدة الإيمانية من أجل تذكير الإنسان، وهذا التذكير لا يستقر في النفس إلا بتصوير المراحل الزمنية بأشكال مترابطة، وليس من السهل إحضار تلك المراحل إلا بذكر الأحداث مرة بعد أخرى وإظهارها بأساليب متشابهة ولذلك نلاحظ تفرق الوقائع في السياق تارة واجتماعها تارة أخرى باعتبار أن الغرض من إيصال المنهج الإيماني لا يمكن أن يتم إلا باللجوء إلى التكرار، ولهذا وبخ الحق سبحانه بعض الناس الذين يعرضون عن النهج السليم لدعوة الحق على الرغم من إظهار المعاني وتصريفها بطرق متشابهة، وذلك في قوله: (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون) الأنعام 46. أي انظر كيف نكرر الآيات ونبينها بأساليب متقاربة لأجل أن تصل إلى أفهامهم إلا أنهم يصدفون عنها أي يعرضون، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً) الإسراء 89.
من بعد هذه المقدمة نستطيع القول إن القرآن الكريم قد صرف الأحداث التي مر بها بنو إسرائيل وبينها بطرق مختلفة تكاد تكون متقاربة لكي تلامس الواقع الذي يعيشه المسلمون في عصر التنزيل، وسيمر عليك
هذا المعنى في تفسير آيتي البحث، أما من يذهب إلى نفي الترادف أو أن يأتي بمبررات واهية للتكرار فهذا وإن كان قوله صادراً عن نية حسنة واعتقاد صحيح، إلا أن مثله كمثل الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه فتأمل.
تفسير آيتي البحث:
قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) البقرة 92. كرر الله تعالى في هذه الآية ما ذكره في قوله: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) البقرة 51. وكما بينا في بحثنا أن سبب التكرار يأتي للتذكير وفي الآية إزالة لأعذارهم، أي لا عذر لكم في دعواكم الإيمان بما أنزل عليكم وأن قلوبكم غلف، وقد مر عليك هذا الادعاء من خلال تفسيرنا للآيات التي سبقت هذا البحث، وفي هذا السياق ذكرهم سبحانه بمجيء موسى بالبينات أي أن الحجة قائمة عليكم من بعد هذا المجيء، والقصد من ذلك إبطال دعواهم بالحجج التي تنفي إيمانهم نفياً قاطعاً لأنهم كانوا يزعمون أن إيمانهم لا يتعدى إلى أكثر مما جاء به موسى، ومن هنا ذكر الحق سبحانه هذه التوطئة لأجل أن يبين لهم أن مجيء موسى بالبينات لم يغير شيئاً في إيمانهم.
فإن قيل: لا يذم الإنسان لمجرد اتخاذ العجل فلمَ وبخهم الله على ذلك؟ أقول: اتخاذ العجل للأغراض الشرعية من الأفعال الجائزة إلا أن الذي يذم عليه الإنسان هو اتخاذ العجل معبوداً من دون الله تعالى، وفي الآية حذف تقديره.. ثم اتخذتم العجل معبوداً.. ولم يأت الحق سبحانه بالمعنى كاملاً باعتبار أن الفعل الصادر عنهم لا يحتاج إلى شاهد، لأنه أصبح معلوماً لدى جميع الناس وعلى مر التأريخ فهو أكبر من أن يعرّف.
فإن قيل: ما هي البينات التي جاء بها موسى؟ أقول: البينات هي المعجزات الدالة على صدق نبوته، كالعصا وضم اليد إلى الجناح وفلق البحر وانفجار العيون وما إلى ذلك.
قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) البقرة 93. ورد السياق ههنا مكرراً، كما في قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) البقرة 63. أي خذوا ما آتيناكم باهتمام، أما معنى قوله: (واشربوا في قلوبهم العجل) من سياق البحث. أي أشربوا في قلوبهم حب العجل، وعبر تعالى عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن الشرب يصل إلى جميع أعضاء البدن ويتغلغل فيها، ولهذا كان التشبيه.
فإن قيل: ما المراد من قوله تعالى: (قالوا سمعنا وعصينا) من سياق البحث؟ أقول: يتضمن السمع معنى الامتثال، أي قالوا امتثلنا للأمر الموجه إلينا، أما العصيان فلم يصدر منهم قولاً وإنما أفعالهم دلت عليه ولهذا المعنى نظائر كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) التوبة 17. أي أن أعمالهم تشهد على كفرهم. وكذا قوله: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 11. وقوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) يس 82. وههنا أطلق تعالى القول وأراد منه القصد فتأمل.
أما قوله تعالى: (قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) من سياق البحث. فالمراد منه اسناد الأمر للإيمان وإضافته إليهم تهكماً، كما في قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) الدخان 49. وكذا قوله: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) هود 87. وقوله: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)
الزخرف 81. وكما ترى فإن المعنى وارد على سبيل التمثيل لغرض المبالغة في نفي الولد عن الحق جل شأنه، وهذا نظير قوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) الأنبياء 22.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن