لا تتأثر الأسس التشريعية بالمتغيرات الطارئة التي هي من صنع الإنسان وذلك لعدم اختلاف الأحكام التي نزلت بها الكتب السماوية، أما ما نشاهده من ملابسات عرضية فهذه وإن كانت توحي بأنها أحد أجزاء الدين إلا أن أسباب نشوئها ترجع إلى النزوات والرغبات التي يحدثها الإنسان الذي يريد أن يباعد بين المنهج الحقيقي وبين الأحكام الدخيلة التي لا تنسجم مع المنطق الإنساني الموحد الذي جاء به الرسل، ومن هنا نلاحظ أن الالتزام بشرع الله تعالى لا يكتب له البقاء إلا إذا ابتعد الإنسان عن التذبذب في المواقف، أما بخلاف ذلك فسوف تكون الأبواب مفتحة على مصارعها والأجواء مهيأة لانتشار الفساد في المجتمعات الدينية وبصورة أكبر من تلك التي نشاهدها في المجتمعات الأخرى، ولو تأملنا الأسباب المؤدية إلى هذا السلوك لوجدنا أن أهمها يكمن في التعامل الذي يخضع للأهواء الشخصية ولا يستند إلى المطالب التي ينادي بها الشرع، وهذا يعد من أهم الأسباب السلبية التي جعلت للتذبذب رواجاً لا مثيل له لدى المجتمعات الدينية ولهذا ترى أن ما يطبقه الحكام وأتباعهم من الدين لا يعتمد على التشريع الحقيقي الذي أنزله الحق سبحانه بل يتعدى إلى ما تمليه عليهم المصالح الآنية الخاصة التي لها اليد الطولى في ممارسة السلوك المتأرجح بين الحق والباطل، وأنت خبير بأن هذه الصورة السيئة لا يتحكم بها الجهل كما يظن كثير من الناس، وإنما يكون الدافع لإثارتها قد حصل نتيجة لسوء التقدير والميل عن الأخذ بالمقررات الشرعية ولذلك أصبح لأصحاب الشأن أحكام نافذة في تسيير الأمور على الشكل الذي يرتضونه، كما هو الحال في ممارسة العقوبات بعيداً عن التشريع، وإن شئت فقل إن تطبيقهم لنهج الله تعالى لا يعتمد على المفاهيم الدينية بل يتعدى إلى رغباتهم وميولهم كما أسلفنا.
فإن قيل: ما هي الأسباب التي تدعوهم إلى هذا الفعل؟ أقول: هناك أسباب كثيرة تدعوهم إلى هذا الفعل ولكن أهمها يقيد في المصالح الخاصة بهم والتي تجعل العالم مسيراً بأمر الحاكم مما يؤمن للأخير البقاء الوهمي في السلطة التي لا يرى طريقاً آخر للحفاظ عليها إلا باتباع هذا النهج، ولذلك ترى أن الاختلافات السافرة بين الرعية قد أخذت تشق طريقها إلى تفريق المناهج العلمية الموثقة التي يمكن أن تجانب تلك الأفعال مما يمهد الطريق لأولئك الناس في نشر الجهل وإبعاد الإنسان الذي يخالفهم الرأي عن أصل الإيمان، مع حفاظهم على التمسك بالدين على طريقتهم الشكلية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، ومن هنا فقد وضع القرآن الكريم قاعدة عامة لجلب انتباه الناس لهذه الأفعال، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) البقرة 85. وفي الآية توبيخ شامل لجميع الفئات الدينية التي تعمل على إيجاد المفارقات في التشريع، ولا يختص بمجموعة دون أخرى، إلا أن آيات البحث الذي نحن بصدده فيها نص قاطع وإشارة لا تقبل اللبس إلى ما كان يفعله بنو إسرائيل في تقويم هذا النهج المخالف لشرع الله تعالى، كما سيمر عليك من خلال تفسير آيات البحث.
وقفة مع آيات البحث:
قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) البقرة 84. الآية تخاطب الأخلاف وتبين لهم ما كان يفعله الأسلاف، ولهذا أنزل سبحانه الكلام منزلة الخبر وليس الأمر، ولو كان في الآية ما يوحي بالأمر لقال لا تسفكوا بدلاً من لا تسفكون على النهي، والمعنى أنا قد بينا الأحكام لأسلافكم وأقروا بها، فإن كنتم تسيرون على نهجهم في نقض الميثاق فسوف تلاقون نفس
النتيجة، وكما ترى فإن الكلام موجهاً إليهم بصورة تقريعية جامعة لأفعالهم وأفعال أسلافهم في آن واحد والمقصود من سفك الدماء، أي لا يسفك بعضكم دم بعض ويلحق بنفس المعنى إخراج أنفسهم من ديارهم حيث جعلهم كالجسد الواحد وذلك قياساً إلى الروابط النسبية التي تجمعهم، كما في قوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) البقرة 54. وقد مر عليك معنى النفس الواحدة في تفسير الآية مثبتاً بالشواهد، وهناك وجه آخر ذكره المفسرون يقضي بعدم التعرض لقتال من يريد قتلهم والوجه ما قدمنا. والمقصود من إخراج أنفسهم أي لا يخرج بعضكم بعضاً من ديارهم وهو خبر بمعنى الأمر كما في لا تعبدون ولا تسفكون، ولهذا ذكر إقرارهم بهذا الشأن فقال عز من قائل: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) من سياق البحث. أي أقررتم بالميثاق وشهدتم على أنفسكم بذلك، وفيه إشارة إلى إقرار أسلافهم بالميثاق، ولهذا أنزل الأخلاف منزلة الشهداء على ما كان يفعل أسلافهم.
قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) البقرة 85. الآية فيها نقلة نوعية من بيان فعل الأسلاف إلى فعل أخلافهم، أي بعد إقرار أولئك بالميثاق ونقضهم له، لم نجد منكم اعتذاراً لفعل أسلافكم ولكن وجدناكم تسيرون بنفس الاتجاه من قتل بعضكم بعضاً وإخراج فريقاً منكم من ديارهم، وهذا مخالف للميثاق المتخذ عليهم إلا أن المفارقة في ذلك أنهم يفادون من يقع في أيديهم من الأسرى سواء كان ذلك عن طريق تبادل الأسرى أو أخذ الفدية.
وروي أنهم كانوا فريقين فريق يقاتل مع الخزرج وآخر يقاتل مع الأوس، ولهذا حصل بينهم سفك الدماء وهو محرم عليهم في التوراة، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما أنزل عليهم في التوراة، ولهذا وبخهم الحق سبحانه بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) من سياق البحث. أي يفادي بعضكم بعضاً بحكم التوراة التي تحرم القتال فيما بينكم والإخراج من الديار، فكيف يحق لكم التفريق في الحكم، وهذا الفعل يقضي إلى الإيمان بالكتاب والكفر به في آن واحد.
قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) البقرة 86. أي أولئك الذين آثروا حب الحياة الدنيا وأعرضوا عن نعيم الآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب في الآخرة أو مطلق العذاب في الدنيا والآخرة ولذا توعدهم سبحانه بعدم النصر فتأمل.
خلاصة البحث:
البحث يشير إلى تناقض بني إسرائيل في مواقفهم حيث إذا استضعف قوم قوماً سفكوا دماءهم وأخرجوهم من ديارهم دون مراعاة للميثاق المأخوذ عليهم، إلا أنهم كانوا يؤمنون بالفداء نظراً إلى ما تقتضيه مصالحهم الخاصة، وهذا لا يعني أنهم يريدون تطبيق بند من بنود الميثاق أو فقرة من فقراته، وروي في أسباب النزول أن قريضة والنضير كانا أخوين فافترقوا فذهبت قريضة للقتال بجانب الأوس أما النضير فكانوا مع الخزرج علماً أن الأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان دون الاعتراف بالجنة أو النار، ولهذا خاطب الله تعالى اليهود بهذا الخطاب المتضمن للتوبيخ، فكأن الحق سبحانه يقول لهم كيف تقاتلون مع هؤلاء الكفار وتفترقون من أجلهم وأنتم أهل كتاب، ألا يوحي هذا الفعل بنوع من التذبذب.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن