22 ديسمبر، 2024 7:07 م

سورة البقرة من الآية 67 إلى الآية 74

سورة البقرة من الآية 67 إلى الآية 74

المقدمات الإجمالية لمعرفة الدلالات العلمية تعتمد على شقين أحدهما يرجع في تكوينه وبيان نتائج أعماله الملموسة إلى الفطرة التي ليس بوسعها التخلف عن الاستقلال الذاتي المصاحب للإنسان، وثانيهما يتمثل في التقليد والرجوع إلى أصحاب الخبرة في الأعمال الخارجة عن فهم الإنسان سواء كانت مادية أو معنوية وهذا من الأسرار الكامنة في العقل البدائي، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الأسئلة الكثيرة التي يوجهها الطفل إلى الآخرين وهو على يقين من حصول الإجابة منهم وغالباً ما يتحقق له ذلك نظراً إلى بداهة الأسئلة التي يعرضها والتي لا تحتاج إلى تجربة أو دراسة عملية وإن شئت فقل هي أقرب إلى العلم الحضوري لدى من يوجه إليه السؤال، وهذا المثال يقودنا إلى ما هو أكثر بعداً عن تفاصيل الحالات المتقاربة مع المعاني التي أشرنا إليها، وذلك يدلل ومن غير لبس على أن الإنسان قد جبل على أخذ العلم الحصولي من أصحاب الخبرة في كل شأن من شؤون حياته وفي جميع القضايا الخارجة عن مداركه العلمية أو فهمه القاصر، ولا يجحد هذا الأمر إلا أصحاب التفكير السطحي الساذج مع ملاحظة الفرق بين المسلمات الخارجة عن بحثنا وبين ما نحن فيه، علماً أن التقليد أو اتباع الآباء لا يستقيم الركون إليه في جميع الحالات فتأمل.

من هنا نعلم أن الاعتماد على العقل لا يمكن أن يكون دليلاً على معرفة الأحكام التشريعية الموحى بها من الله تعالى، وربما تكون العلل مخالفة للحكمة في كثير من الأوامر الإلهية ولذلك يجب ملاحظة مدى تفرع تلك الأوامر على إيجاد السبيل الأقوم لكي يصل الإنسان إلى النتائج المرادة من الأحكام، ولا يخفى على المتلقي أن معرفة عدد ركعات الصلاة وتعيين أوقاتها وكذا الأحكام الأخرى ليس في معرفة أسبابها كثير فائدة، ومن الجهل الذي لا مثيل له نرى أن بعض الدخلاء على العلم يريد أن يجعل للصيام مجموعة من الفوائد فنجده بين فترة وأخرى يوجه الدعوة للناس لأجل أن يبين لهم الحكمة من هذا الفرض ومدى تعلق تلك الفوائد بصحة الإنسان، علما أن الله تعالى لم يبين إلا علة واحدة وهي التقوى المرادة من جميع الأعمال التي يقوم بها المكلف بغض النظر عن علمه بالحكمة من عمله أو خلافه، ولو كان الأمر كما يدعي الدخلاء الذين أشرنا إليهم لقسّم الناس إلى مجموعات لا حصر لها وفي هذه الحالة يكون نصيب كل قسم منهم مخالف لنصيب القسم الآخر في التشريعات، وهذا الفعل يكاد يتقارب مع من يحدد علة النكاح بالإنجاب، ولو سلمنا بصحة ذلك لحرم زواج العقيم فتأمل.

من بعد هذه المقدمة نصل إلى أن بني إسرائيل أرادوا معرفة العلة الكامنة في نوع البقرة التي أمروا بذبحها، ولذلك شددوا في طلب صفاتها ولونها فشدد الله تعالى عليهم، ولو سلموا بقبول الأمر الموجه إليهم من الوهلة الأولى لقضي الأمر في مدة قصيرة ودون جهد، وللمفسرين مسالك متعددة في أسباب اختيار البقرة المعهودة من أرادها فليراجع المطولات، وكما هو ظاهر فإن هذه هي القصة البارزة في هذه السورة ولذلك سميت سورة البقرة بهذا الاسم.

فإن قيل: هل أسماء السور توقيفية أم أنها مما تواضع عليه الصحابة عند الجمع؟ أقول: أسماء السور غير توقيفية على الرغم من أن هناك روايات تنسب تسميتها للنبي (ص) كما ورد عنه من أمر كتّاب الوحي أن يضعوا كذا آية في السورة التي ذكرت فيها البقرة أو التي ذكر فيها الرعد وهكذا، إلا أن هذا لا يثبت أن الأسماء توقيفية، ولو كانت كذلك لما ورد لبعض السور أكثر من اسم، كما هو الحال في التوبة التي تذكر في بعض المصاحف باسم براءة، أو غافر التي من أسمائها المؤمن، وكذا يطلق على سورة محمد سورة القتال، وهذا يبعد الشك من أن هذه الأسماء توقيف من الله تعالى لأن ما ينزل به الوحي لا يحتمل أكثر من وجه فتأمل.

ملخص القصة:

هذا هو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي ذكرت فيه هذه القصة، ويظهر فيها وبلا مراء مدى العناد المتلبس في بني إسرائيل وكيفية تعاملهم مع الأنبياء وتكذيبهم لما يصدر منهم، وفي القصة دليل على الإحياء بعد الإماتة وهذا أهم ما في الحادثة، وملخصها أن هناك حالة قتل حصلت لرجل من بني إسرائيل دون أن يعرف القاتل مما أدى إلى نزاع بين القبائل أي إن كل قبيلة تتهم الأخرى بالقتل، ولهذا كان توجههم إلى موسى من أجل أن يقضي بينهم وذلك لعدم توفر الأدلة الموصلة إلى معرفة القاتل، وكما لا يخفى على أحد من عدم علم الأنبياء بالغيب فقد لجأ موسى إلى الله تعالى لكي يبين له من هو القاتل، وهذا يعد السبب المباشر في أمرهم بذبح البقرة دون الحكمة الخافية عليهم والتي أشرنا إليها وهي إمكانية إحياء الموتى، ولو استجاب هؤلاء وذبحوا بقرة من سائر البقر دون تعيين لما مكثوا فترة من الزمن دون الوصول إلى معرفة القاتل، ولكنهم شددوا فشدد الله تعالى عليهم كما سيتضح من السياق.

وقفة مع آيات البحث:

قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) البقرة 67. كان الخطاب في الآيات السابقة مع بني إسرائيل إلا أن الحق سبحانه لمّا شرع في قصة البقرة انتقل إلى خطاب النبي (ص) ثم انتقل إليهم في آخر القصة أي في الفصل الذي ختمت فيه، وكأن التوبيخ ظاهر في نتيجة الفعل الذي صدر عن أسلافهم، وهذا النوع من الانتقال يسمى بالالتفات سواء كان من الخطاب إلى الغيبة أو العكس، كما في قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) يونس 22. ولم يقل وجرين بكم وذلك بسبب الالتفات إلى النبي (ص) في إكمال الكلام لعدم فهمهم لمجرياته وكذا عدم استحقاقهم للخطاب، ويقابل هذا المعنى قوله تعالى: (عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً) الإنسان 21. ثم انتقل إلى خطابهم بقوله: (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) الإنسان 22. وأنت خبير بأن الالتفات إليهم يبين مدى علو شأنهم ومنزلتهم فتأمل.

وبالرجوع إلى موضوع البحث نرى أن موسى (عليه السلام) يعوذ بالله أن يكون من الجاهلين، لأن ما يأمرهم به ليس من باب الاستهزاء وإنما هو أمر الله تعالى، ولذلك قال تعالى حكاية عنهم: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) البقرة 68. فأجابهم موسى كما في قوله: (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون) البقرة 68. ولا يزالون في ريب من أمرهم ولذا قالوا (ربك) ولم

يقولوا ربنا، ومن هنا بين لهم موسى صفات أخرى للبقرة فقال إنها بقرة لا كبيرة ولا صغيرة وإنما عوان أي متوسطة بين الصفتين، والعوان هي التي تأتي بالمرحلة الثانية، ولذلك يطلق العرب على الحرب الثانية حرب عوان، ولم يكتف هؤلاء بالصفات المذكورة فأرادوا معرفة لونها، كما في قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) البقرة 69. فأجابهم موسى نقلاً عن قول الحق سبحانه: (قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) البقرة 69. أي إنها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر، وليس في الآية دليل على أن اللون الأصفر يسر الناظرين في كل وقت وعلى أي شيء وجد كما يدعي بعضهم وإنما الإشارة إلى هذه البقرة التي أصبحت معهودة بعد أن شددوا في أمرها، ثم بعد ذلك أرادوا البحث عن صفات أخرى للبقرة فقالوا كما في قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) البقرة 70. فأجابهم موسى نقلاً عنه سبحانه: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) البقرة 71. وأخيراً قال تعالى نقلاً عنهم: (قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون) البقرة 71. والمقصود أنها بقرة غير مذللة لحرث الأرض أو سقيها وخالية من العيوب. وكما هو ظاهر فإن قولهم الآن جئت بالحق يدلل على مدى عجزهم عن مجاراة القصة ولذا شرعوا في قبول ما عرض عليهم، علماً أن ذلك لم يكن في رغبتهم بدليل قوله تعالى: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) البقرة 71.

وبعد أن عثر بنو إسرائيل على البقرة لخص الله تعالى الحادثة في آيتين، وذلك في قوله: (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون… فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) البقرة 72- 73. ثم بين تعالى صفاتهم وقسوة قلوبهم من بعد هذه الحادثة في قوله: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون) البقرة 74. وكما هو مبيّن فإن الله تعالى قد جمع في هذه الحادثة أمر إظهار القاتل، وكذلك بيّن لهم القدرة على إحياء الموتى الذي لا يتناسب موضوعه مع أفكارهم بل مع أفكار كل من يجحد هذا الأمر، ولهذا وصفهم سبحانه بقساوة الحجارة ثم ترقى في الوصف إلى ما هو أشد من ذلك مبيناً إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله، ولكن قلوبهم لا يمكن أن تمر بهذه المراحل فتأمل.

فإن قيل: لمَ أشار تعالى بـ (ذلك) إلى المتعدد في قوله: (عوان بين ذلك) البقرة 68. علماً أن ذلك يستعمل للمفرد؟ أقول: استعمال الإشارة والضمير للمفرد بمعنى الجمع أمر شائع في لسان العرب، كما في قوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سؤاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير… ثم قال… ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) الأعراف 26. وقريب منه الكهف 17.

ومنه قول الشاعر:

فيها خطوط من سواد وبلق… كأنه في الجلد توليع البهق

ولم يقل كأنها فتأمل.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن