23 ديسمبر، 2024 7:38 م

سورة البقرة من الآية 35 إلى الآية 39

سورة البقرة من الآية 35 إلى الآية 39

الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس لا يمكن أن يقدّر بأدلة قياسية تجعل الفارق خاضعاً للنسب القانونية بين الطرفين باعتبار أن إبليس كان عصيانه فيه نوع من التمرد على أمر الله تعالى، إضافة إلى ذلك فهو كان على علم من أن ما قام به من فعل يُعد من الأمور التي لا تليق بالمنزلة التي كان فيها، ثم إنه أثبت الكبرياء لنفسه قبال كبرياء الحق سبحانه من جهة ومن جهة أخرى جعل لنفسه الاستقلال مرجحاً المعصية على الطاعة، دون الرجوع إلى الله تعالى والتحقق من السبب الذي أدّى إلى دعوته والملائكة إلى السجود، ومن هنا أوجد لنفسه العذر الذي لا يتناسب مع ما صدر إليه من أمر، ولذلك ترى في قوله ما يُظهر التعنت والكبر وعدم الامتثال وهذا ما يُفهم من قوله تعالى حكاية عنه: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف 12. ص 76. أما عصيان آدم فلا يعتبر عصياناً لأمر مولوي وإنما كان مخالفة لنهي إرشادي، دون أن يظهر من فعله ما يبيّن التكبر على أمر الله تعالى سواء منه أو من زوجه. فإن قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت فلمَ خاطبهما الله تعالى واصفاً إياهما بالظلم إن اقتربا من الشجرة كما ورد ذلك في قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة 35. الأعراف 19. أقول: هذا نوع من ظلم النفس ولذا كان الندم الذي أبدياه مترتباً على هذا المعنى، كما هو مبيّن في قوله تعالى على لسانهما: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف 23. ولذلك ترى أن هناك فرقاً شاسعاً بين المعصيتين أو هو قياس مع الفارق.

ومن خلال مجموع الآيات المتفرقة في شأن هذه الواقعة يتضح أن الجنة التي نزلا فيها لم تكن داراً للبقاء لأن الإنسان خلق لمهمة أخرى وهي النزول إلى الأرض، وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة 30. أما دخول الجنة وما لحق به من إصدار التعاليم المتضمنة للأمر والنهي، فهذه كانت بمنزلة التدريب المعد سلفاً لأجل أن يكون الإنسان قد مارس الأفعال الموكلة إليه بطريقة عملية باعتبار أن القضايا النظرية لا تمهّد له القيام بأعباء الحياة، وما سوف يواجهه من نزغات الشيطان، وكذا ما عليه النفس الأمّارة بالسوء، فهذه الممارسات الفعلية جميعها لا يُراد منها إلا التعرف على مبادئ العيش في هذه الأرض دون الإقامة في الجنة كما في صريح الآيات التي تتحدث عن هذه الواقعة.

من هنا نعلم أن مدة المكث التي قضاها آدم في الجنة ما هي إلا مرحلة تحضيرية لأجل إعداده لمباشرة دوره في الحياة الأرضية، وما تحمله من أعباء ومشقات لأجل أن يكون مؤهلاً لتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه وما تتضمنه من تكاليف تحقق له الطريقة المثلى في العيش، فهذه الأمور التي حصلت له في الجنة لا تُعد إلا نوعاً من الإنذار والتحذير من عداوة الشيطان، وفيها درس آخر بخصوص الندم والتوبة والرجوع إلى الله تعالى، وبناءً على هذا نعلم أن باب التوبة لا يسد بوجه الإنسان العاصي بل بإمكانه الرجوع إلى الله والإقلاع عن الذنب، وهذا الدرس الذي تلقاه آدم يتفرع على جميع المتناقضات التي سوف يمارسها الإنسان في هذه الأرض.

وقفة مع آيات البحث:

قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة 35. كما بينا أن آدم خلق ليحيا في الأرض ويموت فيها، وإنما أسكنه الله تعالى

في الجنة لأجل الاختبار والتدريب ولهذا كان النهي الموجه إليه من عدم الاقتراب من الشجرة فيه نوع من الكشف عن ضعف الإنسان أمام الأشياء التي يجهل أسرارها لا سيما إذا كان هناك عاملاً مساعداً يدعوه إلى حل الرموز التي تخفى عليه والتي يظن أن كماله يتجسد في الوصول إليها والتعرف على ما فيها من لذات ومتع تضاف إلى النعيم الذي هو فيه، ولهذا وقع آدم وزوجه في هذه المعصية. فإن قيل: النهي الموجه لآدم وزوجه كان يتمثل في عدم الاقتراب من الشجرة دون الأكل؟ أقول: إن النهي عن الاقتراب فيه مبالغة أشد من النهي عن الأكل نفسه، لأن النهي عن مقدمات الأشياء المحرمة تجعل الإنسان لا يقع فيها وذلك بسبب امتناعه عن الوصول إلى القرب منها فضلاً عن الدخول فيها، وهناك أمثلة كثيرة لهذا المعنى كما في قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الإسراء 32. وأنت خبير من أن النهي عن القرب من الزنا فيه مبالغة أكثر من القول بالنهي عن الزنا وذلك لأجل قطع الوسيلة التي تؤدّي إلى ارتكابه، باعتبار أن المقدمات هي التي توقع الإنسان في هذه الفاحشة، فإذا تجنب الأسباب التي تقرب بينه وبين الفعل فههنا يكون قد عصم نفسه من الوقوع فيه.

وهذا المعنى يتقارب مع النهي المذكور في اجتناب الخمر المشار إليه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة 90. ولا يخفى على من له أدنى بصيرة من أن القرب من مقدمات الخمر له الدور الأكبر في ارتكاب هذه الفاحشة، ومن تلك المقدمات الجلوس مع من يتعاطى الخمر أو العمل في هذا المجال وما يلحق بذلك من نقله أو المساعدة على تهيئة الأجواء التي يمارس فيها هذا الفعل. ومنه أيضاً قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) الأنعام 152. الإسراء 34. وكذا قوله: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة 222. وقد جمعت هذه النواهي في الكبرى التي أشار إليها تعالى بقوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الأنعام 151. وبهذا يظهر أن النهي الموجه لآدم وزوجه عن القرب من الشجرة فيه تحذير أكثر من النهي عن الأكل منها.

قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها) البقرة 36. بمعنى أن الشيطان استطاع التغلب عليهما بواسطة تزيين الأمر لهما بأشكال مختلفة، كما في قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الأعراف 20. وكذا قوله: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه 120. ثم قال تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه) البقرة 36. وفي هذا السياق مبالغة في الوصف تناسب المقام الذي أخرجا منه وأنزلا إلى الأرض، ولو قال أخرجهما من الجنة في هذا المقام لفقد الوصف فائدته، كما في قوله: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) طه 78. بعد ذلك عقب تعالى بقوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة 36. ويتضح من الآية أن أمر الهبوط موجه لجميع الناس وما يقابلهم من إبليس وذريته، فيكون هبوط آدم وزوجه وإبليس هبوطاً بالفعل أما هبوط ذريتهما فهو هبوط بالقوة، وتبيان أمر العداوة يشمل الجميع سواء آدم وذريته أو إبليس وذريته، وهذا ما نشاهده في كل زمان ومكان من الحروب والقتال بين الناس.

فإن قيل: كيف يوجّه الأمر للناس بالهبوط وهم لم يولدوا بالجنة؟ أقول: كما أشرنا فالهبوط يكون بالقوة دون الفعل باعتبار أن الجميع هم ذرية آدم، أضف إلى ذلك أن الهبوط لا يراد منه المعنى العرفي أي من الأعلى إلى الأسفل، وإنما يراد منه الانتقال من حالة إلى أخرى، كما في قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) هود 48. وكذا قوله: (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) البقرة 61.

قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37. في هذه المرحلة يعترف آدم بالذنب ويتوسل إلى الله تعالى تائباً عن المعصية التي ارتكبها هو وزوجه، ولذا قابله الحق سبحانه بقبول توبتهما ملقناً إياهما بعض الكلمات التي أشار إليها في قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف 23. وعلى الرغم من أن آية سورة الأعراف تبيّن أن التوبة كانت قبل هبوطهما إلى الأرض إلا أن سياق القصة لا يراعى فيه التقديم والتأخير في سرد الآيات.

قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 38. هنا كرر سبحانه فعل اهبطوا ليبيّن لهم أن الهبوط من الجنة أمر ثابت في علم الله تعالى بغض النظر عن ارتكاب المعصية، ولهذا شفعه بقوله: (فإما يأتينكم مني هدى… إلخ) ثم ختم تعالى القصة بقوله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 39. وذلك لأجل أن يقابل الذين اتبعوا الهدى بالذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وبهذا يسدل الستار على أول قصة في القرآن الكريم من حيث الجمع الذي بين أيدينا.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن

سورة البقرة من الآية 35 إلى الآية 39
الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس لا يمكن أن يقدّر بأدلة قياسية تجعل الفارق خاضعاً للنسب القانونية بين الطرفين باعتبار أن إبليس كان عصيانه فيه نوع من التمرد على أمر الله تعالى، إضافة إلى ذلك فهو كان على علم من أن ما قام به من فعل يُعد من الأمور التي لا تليق بالمنزلة التي كان فيها، ثم إنه أثبت الكبرياء لنفسه قبال كبرياء الحق سبحانه من جهة ومن جهة أخرى جعل لنفسه الاستقلال مرجحاً المعصية على الطاعة، دون الرجوع إلى الله تعالى والتحقق من السبب الذي أدّى إلى دعوته والملائكة إلى السجود، ومن هنا أوجد لنفسه العذر الذي لا يتناسب مع ما صدر إليه من أمر، ولذلك ترى في قوله ما يُظهر التعنت والكبر وعدم الامتثال وهذا ما يُفهم من قوله تعالى حكاية عنه: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف 12. ص 76. أما عصيان آدم فلا يعتبر عصياناً لأمر مولوي وإنما كان مخالفة لنهي إرشادي، دون أن يظهر من فعله ما يبيّن التكبر على أمر الله تعالى سواء منه أو من زوجه. فإن قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت فلمَ خاطبهما الله تعالى واصفاً إياهما بالظلم إن اقتربا من الشجرة كما ورد ذلك في قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة 35. الأعراف 19. أقول: هذا نوع من ظلم النفس ولذا كان الندم الذي أبدياه مترتباً على هذا المعنى، كما هو مبيّن في قوله تعالى على لسانهما: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف 23. ولذلك ترى أن هناك فرقاً شاسعاً بين المعصيتين أو هو قياس مع الفارق.

ومن خلال مجموع الآيات المتفرقة في شأن هذه الواقعة يتضح أن الجنة التي نزلا فيها لم تكن داراً للبقاء لأن الإنسان خلق لمهمة أخرى وهي النزول إلى الأرض، وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة 30. أما دخول الجنة وما لحق به من إصدار التعاليم المتضمنة للأمر والنهي، فهذه كانت بمنزلة التدريب المعد سلفاً لأجل أن يكون الإنسان قد مارس الأفعال الموكلة إليه بطريقة عملية باعتبار أن القضايا النظرية لا تمهّد له القيام بأعباء الحياة، وما سوف يواجهه من نزغات الشيطان، وكذا ما عليه النفس الأمّارة بالسوء، فهذه الممارسات الفعلية جميعها لا يُراد منها إلا التعرف على مبادئ العيش في هذه الأرض دون الإقامة في الجنة كما في صريح الآيات التي تتحدث عن هذه الواقعة.

من هنا نعلم أن مدة المكث التي قضاها آدم في الجنة ما هي إلا مرحلة تحضيرية لأجل إعداده لمباشرة دوره في الحياة الأرضية، وما تحمله من أعباء ومشقات لأجل أن يكون مؤهلاً لتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقه وما تتضمنه من تكاليف تحقق له الطريقة المثلى في العيش، فهذه الأمور التي حصلت له في الجنة لا تُعد إلا نوعاً من الإنذار والتحذير من عداوة الشيطان، وفيها درس آخر بخصوص الندم والتوبة والرجوع إلى الله تعالى، وبناءً على هذا نعلم أن باب التوبة لا يسد بوجه الإنسان العاصي بل بإمكانه الرجوع إلى الله والإقلاع عن الذنب، وهذا الدرس الذي تلقاه آدم يتفرع على جميع المتناقضات التي سوف يمارسها الإنسان في هذه الأرض.

وقفة مع آيات البحث:

قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة 35. كما بينا أن آدم خلق ليحيا في الأرض ويموت فيها، وإنما أسكنه الله تعالى

في الجنة لأجل الاختبار والتدريب ولهذا كان النهي الموجه إليه من عدم الاقتراب من الشجرة فيه نوع من الكشف عن ضعف الإنسان أمام الأشياء التي يجهل أسرارها لا سيما إذا كان هناك عاملاً مساعداً يدعوه إلى حل الرموز التي تخفى عليه والتي يظن أن كماله يتجسد في الوصول إليها والتعرف على ما فيها من لذات ومتع تضاف إلى النعيم الذي هو فيه، ولهذا وقع آدم وزوجه في هذه المعصية. فإن قيل: النهي الموجه لآدم وزوجه كان يتمثل في عدم الاقتراب من الشجرة دون الأكل؟ أقول: إن النهي عن الاقتراب فيه مبالغة أشد من النهي عن الأكل نفسه، لأن النهي عن مقدمات الأشياء المحرمة تجعل الإنسان لا يقع فيها وذلك بسبب امتناعه عن الوصول إلى القرب منها فضلاً عن الدخول فيها، وهناك أمثلة كثيرة لهذا المعنى كما في قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الإسراء 32. وأنت خبير من أن النهي عن القرب من الزنا فيه مبالغة أكثر من القول بالنهي عن الزنا وذلك لأجل قطع الوسيلة التي تؤدّي إلى ارتكابه، باعتبار أن المقدمات هي التي توقع الإنسان في هذه الفاحشة، فإذا تجنب الأسباب التي تقرب بينه وبين الفعل فههنا يكون قد عصم نفسه من الوقوع فيه.

وهذا المعنى يتقارب مع النهي المذكور في اجتناب الخمر المشار إليه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة 90. ولا يخفى على من له أدنى بصيرة من أن القرب من مقدمات الخمر له الدور الأكبر في ارتكاب هذه الفاحشة، ومن تلك المقدمات الجلوس مع من يتعاطى الخمر أو العمل في هذا المجال وما يلحق بذلك من نقله أو المساعدة على تهيئة الأجواء التي يمارس فيها هذا الفعل. ومنه أيضاً قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) الأنعام 152. الإسراء 34. وكذا قوله: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) البقرة 222. وقد جمعت هذه النواهي في الكبرى التي أشار إليها تعالى بقوله: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الأنعام 151. وبهذا يظهر أن النهي الموجه لآدم وزوجه عن القرب من الشجرة فيه تحذير أكثر من النهي عن الأكل منها.

قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها) البقرة 36. بمعنى أن الشيطان استطاع التغلب عليهما بواسطة تزيين الأمر لهما بأشكال مختلفة، كما في قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الأعراف 20. وكذا قوله: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه 120. ثم قال تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه) البقرة 36. وفي هذا السياق مبالغة في الوصف تناسب المقام الذي أخرجا منه وأنزلا إلى الأرض، ولو قال أخرجهما من الجنة في هذا المقام لفقد الوصف فائدته، كما في قوله: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) طه 78. بعد ذلك عقب تعالى بقوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة 36. ويتضح من الآية أن أمر الهبوط موجه لجميع الناس وما يقابلهم من إبليس وذريته، فيكون هبوط آدم وزوجه وإبليس هبوطاً بالفعل أما هبوط ذريتهما فهو هبوط بالقوة، وتبيان أمر العداوة يشمل الجميع سواء آدم وذريته أو إبليس وذريته، وهذا ما نشاهده في كل زمان ومكان من الحروب والقتال بين الناس.

فإن قيل: كيف يوجّه الأمر للناس بالهبوط وهم لم يولدوا بالجنة؟ أقول: كما أشرنا فالهبوط يكون بالقوة دون الفعل باعتبار أن الجميع هم ذرية آدم، أضف إلى ذلك أن الهبوط لا يراد منه المعنى العرفي أي من الأعلى إلى الأسفل، وإنما يراد منه الانتقال من حالة إلى أخرى، كما في قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) هود 48. وكذا قوله: (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) البقرة 61.

قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) البقرة 37. في هذه المرحلة يعترف آدم بالذنب ويتوسل إلى الله تعالى تائباً عن المعصية التي ارتكبها هو وزوجه، ولذا قابله الحق سبحانه بقبول توبتهما ملقناً إياهما بعض الكلمات التي أشار إليها في قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف 23. وعلى الرغم من أن آية سورة الأعراف تبيّن أن التوبة كانت قبل هبوطهما إلى الأرض إلا أن سياق القصة لا يراعى فيه التقديم والتأخير في سرد الآيات.

قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 38. هنا كرر سبحانه فعل اهبطوا ليبيّن لهم أن الهبوط من الجنة أمر ثابت في علم الله تعالى بغض النظر عن ارتكاب المعصية، ولهذا شفعه بقوله: (فإما يأتينكم مني هدى… إلخ) ثم ختم تعالى القصة بقوله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة 39. وذلك لأجل أن يقابل الذين اتبعوا الهدى بالذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وبهذا يسدل الستار على أول قصة في القرآن الكريم من حيث الجمع الذي بين أيدينا.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن