23 ديسمبر، 2024 10:18 ص

سورة البقرة من الآية 23 إلى الآية 24

سورة البقرة من الآية 23 إلى الآية 24

تجري الأحداث الواقعية للمعجزة ضمن المديات الزمانية التي يصعب تصديقها من قبل الأجيال اللاحقة ما لم يكن هناك اطمئناناً وتسليماً بصدق المدعى، وأنت خبير من أن طول المدة لا يتقارب مع جميع المصاديق التي تبنى عليها المعجزات، وقد يكون هذا المعنى ظاهراً في الإعجاز المصاحب للتحدي من خلال الأدلة والبراهين الحسية وإن كان ذلك في منأى عن إدراك الناس الذين لم يشهدوا الحالات الواقعية، ومن هنا كان لزاماً أن تؤخذ الحجج وتقاس خارج إطار المسلمات المتواترة لكي لا يحتاج الطرف الذي يقع عليه التحدي إلى مشاهد أخرى توحي بتكرار العملية الإعجازية دون التحقق من صدق مقاييسها المادية، ومثالاً على ذلك النار التي قال لها الله تعالى كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، وكذا المعجزات التي جاء بها موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء دون النظر إلى تسلسل الأحداث أو اختلاف الأزمنة التي وقعت فيها تلك المعجزات، ومن هنا فإن أفضل الطرق لإثبات هذه المجريات التأريخية هو تدوينها في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأجل أن يكون حافظاً لما خفي على كثير من الناس من جهة ومقيماً الحجة على من لم يشاهد تلك الوقائع من جهة أخرى، وبهذا يكون التصديق بما جاء به الأنبياء داخلاً ضمن العملية الاعتقادية دون أن يبتعد عن التشريعات العبادية التي فرضت على أقوامهم.

وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن النقاش الذي يأخذ طابع الجدال العقيم لا يبرر بالمنزلة السيادية التي تلزم الأطراف المتنازعة على مجاراتها، وذلك لأجل أن يتم اعتماد القياسات العقلية وجعلها خاضعة لتبيان المعارف القرآنية التي تمهد الطريق أمام من يأخذ بالمقدمات حتى يصل إلى النتائج الصحيحة دون تجنب الأمور الجدلية التي لا تخرج عن النصب التي وضعت لها، أما في حالة اعتماد الجانب المخالف لهذا النهج فههنا يكون الإرث المألوف لدى الطرف المقابل غير خارج عن حجية المسلمات التي تدخل بموجبها جميع الأطراف إلى التشريعات المقررة لكل طرف منهم وذلك بسبب النظرة السائدة التي يتمسك بها جمع من الذين يجادلون بغير علم والتي يريدون من خلالها إبعاد القرآن الكريم وما فيه من حجج وبراهين ظاهرة عن ساحة النقاش وبالتالي يجعلون أصحاب الحق يبحثون عن طرق أخرى لإظهار المتطلبات التي يرغبون بها دون القرآن الكريم من أجل أن تصبح حجتهم مدخولة ولا تفي بالغرض الذي يمكن أن يجانب الأخطاء المطروحة على ساحة النقاش، وكما ترى فإن هذه الدعوة باطلة وذلك لأن القرآن الكريم لا يعالج القضايا المتجذرة في عصر دون آخر فضلاً عن تبيانه لكل شيء، أما تمسك الأطراف الجائرة بعدم اتباع النهج السليم في النقاش فهذا مما لا يعتد به وإن كان هناك نوعاً من التسامح من قبل كثير من أصحاب الحق مقابل هذا الأمر، ولأجل الخروج عن هذا النهج يجب عدم اتخاذ الحجج المتفرقة التي يريد الخصم اتباعها.

فإن قيل: بناءً على ما تقدم يمكن أن يكون الدليل متلازماً مع متطلبات الطرف الآخر الذي تمسك بالإرث باعتبار أن ملة الكفر واحدة وعلى هذا يكون القرآن الكريم خارج تلك المتطلبات؟ أقول: إذا أردنا تبيان الدليل نحتاج إلى مجموعة من المصاديق قبل الدخول إلى الإعجاز السائد الذي يلزم الخصم، وأهم هذه المصاديق يتجسد في المغيبات التي أخبر عنها القرآن الكريم قبل وقوعها، كما في قوله تعالى: (غلبت الروم… في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون… في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون… بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) الروم 2- 5. وكذا قوله: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) الفتح 27. وقوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) القمر 45. وأقرب من هذا بياناً قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم) القلم 16. وما إلى ذلك من الشواهد التأريخية

التي ذكرها القرآن الكريم وكذا الشواهد التي ظهرت بعد عصر التنزيل فضلاً عن كشف الأسرار التي تخالج النفس البشرية دون أن يتمكن أحد من الاطلاع عليها، كما في قوله تعالى: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله) المجادلة 8.

من هنا يتحصل ان كشف هذه المغيبات لم يكن جزافاً، وإن شئت فقل ماذا سيحدث عند تخلف إحدى هذه المغيبات عن الظهور. وهنالك أدلة ومصاديق أخرى أثارها القرآن الكريم مقابل شخص النبي (ص) ولا يخفى هذا الأمر على المتأمل لتأريخ العرب المتأصل في الحمية التي تفترق إلى عدة أبعاد إذا ما أخذنا الجانب الإيجابي في حياة النبي (ص) وكيف كان يلقب بالصادق الأمين وسرعان ما بدلت تلك الألقاب إلى ألقاب أخرى، وعلى الرغم من ذلك إلا أنه أظهر الآيات التي يصعب عليه إيصالها لهم وتعريفهم بها وهذا من أعظم الأدلة على صدق الدعوة التي جاء بها، ومن بين هذه الآيات قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل… لأخذنا منه باليمين… ثم لقطعنا منه الوتين) الحاقة 44- 46. وكذا قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) يونس 94. وقوله: (ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً… إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) الإسراء 74- 75. وهنالك آيات أخرى لم نذكرها لئلا يطمع الذي في قلبه مرض باتباع المتشابه. وبناءً على هذا الطرح لم يبق للخصم إلا التسليم، أما بخلاف ذلك فهو ملزم أن يأتي بسورة من مثل سور القرآن الكريم أو من مثل رجل أمي لا يمكن أن يحيط بجميع هذه الأسرار والمعارف التي ألقيت في روعه.

من هنا يمكن القول إن سورة البقرة عندما تحدثت في مطلعها عن أصناف الناس ودعتهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له فمن الطبيعي أن السياق اللاحق لا يشير إلى المتقين باعتبار أن هذا تحصيل للحاصل، وإنما المراد ههنا هو الصنف الثاني بناءً على الريب الظاهر منهم في تصديق من أنزل عليه القرآن الكريم، أما الصنف الثالث الذي أطنبت السورة في بيان صفاتهم فهم وإن كانوا خارج هذه الحسابات إلا أن دخولهم يكون ملازماً للتبعية الفعلية التي أشار إليها الخطاب، ولهذا جعل الحق سبحانه موضوع التحدي آخذاً بالعموم، فقال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) البقرة 23. أي إن كنتم في شك من أن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر عن هذا النبي باعتبار بشريته أو منزلته بينكم وكذا أميته (فأتوا بسورة من مثله) البقرة 23. ثم أمرهم أن يدعوا أسيادهم الذين كانوا عوناً لهم على إنكار الرسالة، وقوله: (من دون الله) البقرة 23. فيه استثناء ملازم لإزالة الاحتمال وهذا كثير في حالات كهذه، منها قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) يونس 37. وكذا قوله: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) يونس 38. وقريب منه هود 13.

وقوله: (إن كنتم صادقين) البقرة 23. أي إن كنتم صادقين في دعواكم فإن الطريق أيسر إلى الإتيان بسورة من مثله لأنكم أهل بلاغة وفصاحة والأمر معد وممهد أمامكم فهلا قبلتم التحدي، وسورة البقرة هي آخر السور التي دعاهم الحق سبحانه فيها إلى التحدي، وقد سبق أن دعاهم في السور المكية، كما في قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) الإسراء 88. ثم قلل تعالى العدد إلى عشر سور، كما في قوله: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) هود 13. ثم قلل سبحانه العدد إلى سورة واحدة، كما مر عليك في آية سورة يونس وكذا في موضوع البحث، وهنالك جانب آخر وهو التحدي بحديث واحد، كما في قوله تعالى: (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) الطور 34.

قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا) البقرة 24. فيه بيان على عجزهم من أن يأتوا بمثل سورة واحدة وإن كانت أقرب إلى أقصر السور، ثم أكد البيان بقوله: (ولن تفعلوا) البقرة 24. وفي هذا الجزء من الآية دليل على عجزهم من أن يأتوا بمثل سورة واحدة على مر الدهر لأن الأمر أكبر من ذلك، وهذا السياق يبين لهم أن الكلام الذي هذا شأنه لا يمكن أن يصدر من رجل أمي وهو النبي محمد (ص) ثم بين لهم ما يجنبهم ذلك في قوله: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) البقرة 24. وقد بان من هذا العناد أن أعذارهم ومبرراتهم لن ترقى إلى مجاراة القرآن الكريم على الرغم من ترك الأبواب مفتحة أمامهم لأجل أن يختاروا أقرب الطرق التي توصلهم إلى النقاش السليم إلا أنهم عجزوا عن مجاراة هذا التحدي الذي لا يزال قائماً إلى اليوم فتأمل.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن