الأصول العقائدية وما يندرج تحتها من أحكام عملية لا يمكن تغييرها أو التفريق بين مصاديقها إلا من جهة التشريع الجزئي الذي تراعى بموجبه خصوصيات الأقوام الذين أرسل الله تعالى إليهم الأنبياء وجعل لكل قوم منهم شريعة مستقلة ومنهاجاً يشتمل على تفصيل الأحكام المتفرعة من تلك الشريعة، وهذا ما يفهم من قوله سبحانه: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) المائدة 48. والآية صريحة في تبيان الاختلاف بين الشرائع من حيث التطبيقات العملية دون العقيدة الثابتة التي لا يطرأ عليها النسخ أو التبديل، وبناءً على هذا نعلم أن ليس هناك ما يدعو إلى اختلاف الناس في جوهر العقيدة وما يرتبط بها من أصول إيمانية أو ما تتضمنه من مفاهيم عامة، وأنت خبير بأن السبيل القويم المتبع لدى جميع الأقوام المرسل إليهم لا يخرج عن تلك المفاهيم، أما إذا اتخذ الإنسان ما يخالف هذا النهج فمن الطبيعي أن يحدث لديه تباعداً في طرق الكمال التي ينتهجها ومن هنا نراه يميل إلى تعدد السبل التي يسلكها، ولهذا نهى الله تعالى عن اتباع السبل التي تكون سبباً في تفرق الناس عن سبيله جل شأنه، وقد أشار إلى هذا المعنى بقوله: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الأنعام 153.
فإن قيل: إذا كان سبيل الله واحداً فلماذا ذكر أن له أكثر من سبيل في قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69. ألا يوحي هذا المعنى بالتعارض بين الآيتين؟ أقول: اختلاف طرق الجهاد التي أمر الله تعالى بها متعددة ابتداءً من جهاد النفس وانتهاءً بالجهاد الذي هو على بابه، فهذه الطرق جميعها تدعو الإنسان إلى التخلص من الموبقات التي تلاحقه، ولذلك نرى أن تعدد السبل اختلف من حيث المصاديق المؤدية إلى السلام دون المفهوم العام للسبيل الذي يكدح إليه الإنسان، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين… يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة 15- 16.
وبناءً على ما تقدم يظهر أن السبيل المدعو إليه من قبل الحق سبحانه لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجل تبيانه للناس كافة، وإرشادهم إلى المعارف المتعلقة بالتشريع، وما يؤول إليه السلوك البشري وصولاً إلى تعريف المجريات الحقيقية المتفرعة على المعاد، ولذلك اقتضت حكمته سبحانه أن تكون جميع المعارف مرتبطة بأصل واحد بحيث لا ينفك أحد أجزائها عن الآخر، ومن هنا وجب الإيمان بجميع ما أنزل الله تعالى من غير استثناء، أما في حال الإيمان ببعض ما أنزل ونبذ بعض فهذا لا يعد إلا كفراً بجميع ما أنزل الله سبحانه، وقد بين تعالى ذلك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء 136.
وعند تأمل منطوق الآية آنفة الذكر وكذا ما يؤول إليه مفهومها يظهر أنها توصي بضرورة الإيمان والإقرار بجميع الأنبياء وبما أنزل عليهم من كتب تدعو إلى نهج واحد لا يجانب الحق، وذلك لأن رسالتهم واحدة مع ملاحظة أن لكل نبي منهم شرعة خاصة، وإن اجتمعوا في النهج المؤدي إلى تكامل الدين الذي ينادون به باعتبار أن كل نبي لا حق هو امتداد لنبي سابق، ولهذا فلا معنى للتفريق بينهم أو قبول رسالة بعض منهم دون بعض لأن حقيقتهم واحدة لا تقبل التجزئة، أما إذا حدث العكس واتخذ قوم من الأقوام المرسل إليهم ما يخالف هذا النهج فلا جرم أن سبب ذلك يرجع إلى العصبيات القومية البعيدة عن شرع الله تعالى، ومن هنا
كانت دعوة القرآن الكريم إلى المؤمنين بأن يعتقدوا بجميع الأنبياء وما أنزل عليهم من كتب مبينة لنهج الله تعالى، وكذا الاعتقاد بالملائكة واليوم الآخر وكل ما يرتبط بدعوة الحق جل شأنه، ولهذا فقد سجل الله تعالى على بني إسرائيل تخلفهم عن هذا النهج الذي ألزم به الناس كافة دون تمييز باللون أو العرق أو ما إلى ذلك، وسيمر عليك هذا المعنى من خلال تفسير آية البحث.
وقفة مع آية البحث:
قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) البقرة 91. تشير الآية إلى أن الإيمان بالتوراة يستلزم الإيمان بالقرآن لأنه يصدق ما ورد فيها من تعاليم، فكأن الله تعالى قد بين في هذا الخطاب زيف أقوالهم التي لا تستند إلى دليل، ولهذا احتج عليهم بمجموعة من الحجج أهمها ما ذكر في ذيل آية البحث، أي إن كنتم تؤمنون بالتوراة حقاً فلم تقتلون أنبياء الله من قبل باعتبار أنها تنهاكم عن هذا الفعل إلا أنكم خالفتم ما جاء فيها من تعاليم، ولهذا سلكتم الطريق الذي أدى بكم إلى الكفر بما وراء التوراة، لأن تكذيب الإنجيل أو القرآن هو تكذيب للتوراة النازلة عليكم من باب أولى، ومن هنا نفهم أنهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن بسبب القومية التي تجعلهم في المرتبة العليا المخالفة لأصل الرسالة التي تدعوهم إلى توحيد الله تعالى، ولا يخفى على المتلقي بأن هدف التوحيد هو القضاء على جميع الدعوات الذاتية والقومية والتوجه إلى عبادة الله تعالى عبادة خالصة بعيدة عن الانتماءات العرقية، وهذا ما نلمسه من خلال السياق الذي لا يشير إلى شخص بعينه وإنما جعل الدعوة مجردة عن اسم النبي ولهذا لم يقل في هذا الموضع آمنوا بما أنزل الله على محمد وإنما قال آمنوا بما أنزل الله، ولذلك نجد أن هناك فرقاً بين الحديث الوارد في آية البحث وبين حديثه جل شأنه عن المؤمنين عند الإشارة إلى شخص النبي (ص) في قوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) القتال 2. علماً أن التعبير قد اختلف عن المعنى المقابل الذي بينه في قوله: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) القتال 1. ولم يقل كفروا بمحمد أو صدوا عن سبيله فتأمل.
فإن قيل: لمَ أسند الله تعالى فعل السلف للخلف في الخطاب؟ أقول: يرجع السبب في ذلك إلى ما ارتضاه الأخلاف من الأفعال التي قام بها أسلافهم من تكذيب الأنبياء وقتلهم، وما يتفرع على ذلك من الأعمال السيئة التي ساروا على نهجها دون التخلف عنها.
فإن قيل: لمَ قال تعالى: (ويكفرون بما وراءه) من سياق البحث. علماً أن الكفر واقع منهم قبل نزول الآية؟ أقول: أراد تعالى من الوراء في هذا الموضع معنى (السوى) أي يكفرون بما سواه، وذهب بعض المفسرين إلى أن الوراء من الألفاظ المتضادة فهو يطلق على الأمام كما يطلق على الخلف، ودليلهم في ذلك قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) الكهف 79. أي كان أمامهم ملك، واستدلوا كذلك بقول لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي… لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن