يخضع الإنسان لمجموعة من العوامل المؤثرة في سلوكه سلباً أو إيجاباً ولذلك فهو يتأرجح بين الصبر والجزع، فإن صبر على ضر مسه وأظهر خلاف ما يبطن كان من الذين يجزون على هذا الفعل لأن الله تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا في حالات خاصة، كالظلم الواقع على النفس عند نفاد صبرها، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً) النساء 148. وكما هو ظاهر فإن الآية مسوقة لتعليم الإنسان مدى صبره على كتمان الأقوال السيئة التي يواجه الآخرين بها، إلا أن الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (إلا من ظلم) النساء 148. هو استثناء منقطع أي أن هناك رخصة للإنسان بأن يجهر بالسوء من القول بحق من ظلمه دون الاعتداء السافر، وفي الآية ما يبيح حق إظهار الظلم وإن كان العفو هو الملاك، ولذلك عقب سبحانه بعد هذه الآية بقوله: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً) النساء 149. وفي منطوق الآيتين تأكيد على سمو الصفات الحميدة والتي من أهمها العفو عند المقدرة، ولهذا وضع تعالى السبب موضع المسبب في قوله: (فإن الله كان عفواً قديراً) النساء 149.
وبناءً على ما تقدم يظهر أن حق الإنسان في الكلام لا يمكن أن يلازمه في جميع أحواله وتصرفاته، أو أن يتلفظ بما يشاء من القول لأن ذلك يفسد الروابط الاجتماعية بين الناس وبالتالي تحل الصفات الذميمة محل الصفات الحميدة، ومن هنا نستطيع معرفة السبب الذي من أجله أشار القرآن الكريم إلى اجتناب الظن أو التجسس والاغتياب، ووصف هذه الأفعال بأجزل بيان وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) الحجرات 12. ولهذا نرى أن القرآن الكريم يجمع بين الإحسان الفعلي وبين ما يرادفه من الإحسان القولي، فإن كان الأول يشق على الإنسان وجب عليه التستر في القول وإظهار ما يسر الآخرين، لأن التعامل بين الناس يعتمد على الظاهر في أغلب الحالات، وقد ورد عن النبي ما يبين هذا المعنى وذلك في قوله (ص) “لو تكاشفتم ما تدافنتم” وهذا يؤكد أن هناك مواقفاً كثيرة قد تسوء الإنسان في علاقاته مع الآخرين إلا أن اتخاذه الأسلوب الحسن في التعامل يجعله في المنزلة الرفيعة، أو بعبارة أخرى يمكن القول إذا تعذر عليه الفعل فمن المناسب أن يظهر الإحسان بالقول، وقد ورد هذا المعنى عن أبي الطيب المتنبي في قوله:
لا خيل عندك تهديها ولا مال… فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وروي إن لم تسعد الحال لأن الحال يذكر ويؤنث، ويشهد لتأنيثه قول عمر بن أبي ربيعة:
فبتنا بتلك الحال إذ صاح ناطق… وبين معروف الصباح فصدقا
من هنا نعلم أن الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل كان متضمناً للإرشادات الفعلية والقولية في آن واحد كما سيمر عليك في تفسير آية البحث.
وقفة مع آية البحث:
قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون) البقرة 83. فصل القرآن الكريم الميثاق مع بني إسرائيل وبينه بطريقة أشمل بعد أن تطرق إليه في الآيات السابقة بصورة مختصرة، وقد علمت من خلال كتابنا هذا أن الميثاق يتضمن القواعد الثابتة للدين وهي نفس القواعد التي نزل بها القرآن الكريم إلا أنهم تنكروا لها وتركوها وراء ظهورهم، ولو تأملت تلك القواعد ستجد أنها لا تخرج عن النداء الإيماني الذي يدعو إلى توحيد الله تعالى وما يترتب على ذلك التوحيد من استقرار المبادئ الإنسانية المشتملة على العلاقات والمعاملات بين أبناء البشر على اختلاف مللهم ونحلهم وهذا ما أقره الدين وبنى عليه الروابط الاجتماعية، ومن هنا نرى أن الحق سبحانه قد فرع هذه الروابط على عبادته، ولذلك وجه الأمر الإرشادي إلى بني إسرائيل بطريقة أكثر تفصيلا كما هو ظاهر في التعاليم التي ذكرت في الميثاق والمتضمنة للإحسان بالوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وصولاً إلى خطاب الناس بالقول الحسن المترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك أشار إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة باعتبارهما المقوم الأهم في الجمع بين الخضوع والتسليم لله تعالى.
من هنا يظهر أن بني إسرائيل لم يراعوا هذا الميثاق حق رعايته ولهذا وجه الحق سبحانه الخطاب إلى المؤمنين وذلك بسبب الإعراض الصادر عنهم ولم يلتفت إليهم إلا في الحالات التي تحتاج إلى التوبيخ والتقريع، كما في قوله: (ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون) من آية البحث.
فإن قيل: إذا كان إيجاد الولد لا يعتمد على علة فعلية وإنما يحصل ذلك بسبب مجموعة من الدوافع التي تنشأ من الوالدين وأغلب تلك الدوافع لا تخضع لإرادتهما كالشهوة الجنسية، إضافة إلى أن هناك من لا يرغب بالإنجاب إلا أنه يحدث لديه دون إرادته فكيف يأمر الله تعالى الأولاد بالإحسان للوالدين؟ أقول: السبب الرئيس الذي يقضي بوجوب الطاعة للوالدين يعتمد على إبقاء الرابطة الأسرية على تمامها دون الميل إلى ما يعكر صفوها، ولما كان الوالدان هما السبب المباشر في تربية الأولاد بعد إيجادهم وفي حالة ضعفهم وكذا المراحل الأخرى التي لا يملكون فيها القدرة على رعاية أنفسهم فمن الطبيعي أن يوجه الأمر بالإحسان إليهم، ولا يخفى عليك بأن هذه الأسباب كفيلة برد الجميل إلى أهله بغض النظر عن الرابطة الدموية فتأمل.
فإن قيل: وماذا عن الحنان الفطري المتبادل بين الآباء والأبناء وما يلحق بهما؟ أقول: ما نشاهده من الحنان المتبادل بين الآباء والأبناء أو بين الإخوة نزولاً أو صعوداً يخضع للتسخير الطبيعي الذي أودعه الله تعالى في الفطرة التي أنشأها وذلك لأجل استمرار الحياة دون إفراط أو تفريط، علماً أن هذا الحنان لا يقتصر على الإنسان بل يمتد ليشمل جميع الكائنات الأخرى، ولما كان هذا الحب الفطري طاغياً أكثر لدى الآباء نجد أن الأمر الإلهي بالإحسان لم يوجه إليهم لأنه تحصيل للحاصل وإنما وجه للأبناء، وهذا ظاهر من ارتقاء النص مباشرة من الوالدين إلى ذي القربى واليتامى والمساكين دون الإشارة إلى الأولاد.
فإن قيل: لمَ جمع الله تعالى بين توليهم وإعراضهم ألا يوحي هذا السياق بالتكرار باعتبار أن من يتولى عن أمر معين يكون معرضاً عنه؟ أقول: قد يتولى الإنسان عن شيء ما مع الأخذ بالاحتياط في حالات خاصة إلا أن المشار إليهم في سياق البحث لم يكونوا بهذا المستوى الذي يؤهلهم للرجوع عن الإعراض بعد توليهم ولذلك جمعوا بين الأمرين دون التمكن من الرجعة الاختيارية، ولهذا السبب كان توبيخهم فتأمل ذلك بلطف.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن