23 ديسمبر، 2024 9:45 ص

الأدلة العقلية والبراهين اليقينية الموصلة إلى معرفة الاعتقاد الملازم للمنهج السليم لا تتقارب كلياً مع القيم المجانبة للسلوك الفطري وإن كانت الأخيرة لا تبتعد كثيراً عن الصورة الواقعة تحت الروابط العملية بجميع مكوناتها، ويمكن استنتاج هذا المعنى قياساً إلى تخلف أتباع الشرائع الأخرى لا سيما في عهد التنزيل عن القيد التابع للموازين الإلهية، وعلى ضوء هذا البيان نعلم أن الشروط العامة لسلامة الناس يوم القيامة لا يمكن أن تخضع للمسميات الشرعية بما هي مسميات، وإنما يجب أن يقرر عن طريقها معرفة التفاصيل الشاملة المتعلقة بالمنهج المنزل من عند الحق سبحانه والمفروض على الناس من خلال إرسال الرسل وإنزال الكتب، ومن هنا فقد يظهر الأمر جلياً في الارتباط السببي بين قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 62. وبين الآيات السابقة التي تحدثت عن بني إسرائيل بطريقة تقريعية.

وبناءً على ما تقدم من بيان نلاحظ أن السياق يضع حداً بين فترتين لا تفاضل لإحداهما على الأخرى إن لم يكن الإيمان المصاحب للعمل الصالح هو المقياس الفاعل في تعريف الاتجاهات المعتمدة لدى أصحاب الشرائع المذكورة على اختلاف طرق ومشارب التفكير السائدة عندهم، أو النظرة العامة التي تربطهم بالعقيدة الصحيحة إذا ما كان إيمانهم آخذاً بالاستقرار على الثابت الديني سواء في الفترة التي مرت عليهم قبل عهد النبي (ص) أو عند معاصرتهم إياه مع الحفاظ على البشارات السابقة التي تلقوها عن أنبيائهم والتي تبيّن صفاته (ص) بأتم بيان، وهذا ما يجعل تمسكهم بالتوراة سبباً للدخول في الدين الجديد وعند ذلك سوف تتطابق الرؤى الإيمانية بينهم وبين أتباع القرآن الكريم، ويمكن معرفة ذلك من خلال تصدر الآية بقوله تعالى: (إن الذين آمنوا) وصولاً إلى قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر)… فكأن الآية تشير إلى أن المؤمنين برسالة النبي (ص) سواء منهم أتباعه أو أتباع غيره من الأنبياء، فهؤلاء وإن اختلفت شرائعهم إلا أن الأصل الملازم لهم لا يخرج عن الاقتداء به (ص) والسير على هداه، وعند ذلك سوف تتلاشى المسميات التي جعلت أقرب إلى الصفات الخاصة بكل شريعة دون أن يكون هناك أثراً مسوغاً لهذا الاختلاف، ومن هنا أراد الحق سبحانه إزالة هذا الإبهام الذي هو من صنع الناس أنفسهم.

فإن قيل: كيف أدخل الله تعالى المؤمنين في الآية، ثم قال: (من آمن بالله واليوم الآخر)… أليس هذا من باب تحصيل الحاصل؟ أقول: أراد سبحانه المؤمنين الذين استقر الإيمان في قلوبهم بحيث أصبحت أقوالهم لا تناقض أفعالهم، ولذلك ترى أن القرآن الكريم قد أخرجهم عن فئة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ومن هنا نستطيع إثبات الشرط اللازم لهذه التسمية، وهذا المعنى نظير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء 136. وأنت خبير بأن في الآية بيان للشروط الداعية إلى الإيمان بجميع ما أنزله الله تعالى على لسان رسله، وهذا يجري في المسلمين

وفي غيرهم من أصحاب الشرائع الأخرى، وقياساً إلى ذلك نجد أن التفاصيل اللاحقة لقضية الإيمان قد أنزلت بطريقة مسلّمة يرتبط كل وجه منها بالوجه السابق من جهة، ومن جهة ثانية يتصل بالوجه اللاحق وإذا ما دخلنا أكثر إلى عمق السياق سوف نصل إلى أن الإيمان بحقيقة واحدة من الحقائق المذكورة لا تكتب له الاستقامة إلا بالإيمان بجميع المستلزمات المشار إليها.

من هنا نعلم أن سياق البحث قد بين الصورة المعبرة عن الموقف الشامل للطوائف المذكورة بغض النظر عن الفرق الظاهر بين طائفة وأخرى شريطة الالتزام الموافق للمناهج الخاصة التي جاء بها الرسل، مع مراعاة الكيفية التي يتم بواسطتها الانتقال من منهج إلى آخر. فإن قيل: ماذا تعني أسماء الفرق التي ورد ذكرها في آية البحث؟ أقول: أشرنا إلى معنى الذين آمنوا من خلال البحث، إلا أن هناك وجوهاً أخرى تطرق المفسرون إليها أذكر منها:

أولاً: المقصود من الذين آمنوا أي آمنوا برسالة النبي (ص) في الماضي بغض النظر عن الفرقة التي ينتمون إليها، وبهذا يكون قوله تعالى: (من آمن بالله) من آية البحث. فيه إشارة إلى المستقبل، وقد يؤيد هذا الوجه بقول الحق سبحانه: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) القتال 2. والنكتة ظاهرة في تكرار قوله: (آمنوا) الذي يتقارب مع موضوع البحث.

ثانياً: المراد من الذين آمنوا أي الذين يؤمنون بألسنتهم دون قلوبهم وهم المنافقون، وبهذا يكون السياق آخذاً بالترقي من المنافقين ثم اليهود والنصارى وصولاً إلى الصابئين.

ثالثاً: الذين آمنوا قبل البعثة وأقروا بالبراءة من الطرق المتخذة من قبل اليهود والنصارى.

أما قوله تعالى: (والذين هادوا) فقد اختلف المفسرون فيه على عدة آراء:

الرأي الأول: أطلق عليهم هذا الاسم لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة.

الرأي الثاني: اشتقت هذه التسمية من يهوذا وهو أكبر أبناء يعقوب، ولهذا عرب الاسم عند انتقاله إلى العرب الذين من عادتهم تعريب الأسماء مع ما يناسب لسانهم.

الرأي الثالث: إن الاسم مشتق من قوله تعالى: (إنا هدنا إليك) الأعراف 156. أي تبنا إليك.

أما النصارى فقد ذكر المفسرون لتسميتهم مجموعة من الآراء أهمها:

أولاً: نسبة إلى قرية الناصرة وهي القرية التي نزلها المسيح.

ثانياً: أطلق عليهم هذا الاسم وذلك لتناصرهم فيما بينهم.

ثالثاً: السبب المباشر في هذه التسمية يرجع إلى قول عيسى للحواريين من أنصاري إلى الله، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله) آل عمران 52. وقريب منه الصف 14.

أما الصابئة فقد أخذت تسميتهم من صبا وتعني خروج الإنسان عن دينه والدخول في دين آخر، ولذلك أطلق العرب على النبي (ص) هذا الاسم لأنه أظهر ديناً آخر، وكذا قولهم صبأت النجوم إذا خرجت من مطلعها، وللمفسرين فيهم مجموعة من الأقوال:

الأول: هم قوم كالمجوس.

الثاني: هم صنف من النصارى.

الثالث: هم فرقة من أهل الكتاب.

الرابع: هم السائحون المحلقة رؤوسهم.

الخامس: هم قوم بين اليهود والنصارى.

السادس: هم قوم بين المجوس والنصارى ليس لهم دين.

السابع: هم قوم يصلون إلى القبلة، ويعبدون الملائكة.

الثامن: هم قوم يقولون لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي.

التاسع: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى، ويزعمون أنهم على دين نوح.

العاشر: هم أهل دين يسكنون في العراق ويقولون لا إله إلا الله، ويزعمون أن نبيهم هو يحيى بن زكريا.

فإن قيل: هل يصح القول إن آية البحث منسوخة بقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران 85. كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين؟ أقول: ليس في الآيتين ناسخ ومنسوخ بل هناك تماثل بينهما من وجه، لأن الإسلام المشار إليه في أية آل عمران أو الذي يفهم من آية البحث لا يراد منه الإسلام المتعارف عليه، وإنما فيهما إشارة إلى الإسلام الشامل الذي أرسل الله تعالى به جميع رسله وأنزل فيه كتبه، فهو لا يقتصر على فئة دون أخرى، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله) المائدة 44. وقد يعضد هذا المعنى بقوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين… ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) البقرة 131- 132. وبهذا يظهر أن آية البحث قد حملت هذا المعنى في مفهومها الذي تلتقي عليه جميع الفرق، شريطة الإيمان بالرسالة اللاحقة من قبل أتباع كل شريعة من الشرائع السابقة وصولاً إلى المعنى المصطلح للإسلام فتأمل ذلك بلطف.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن