23 ديسمبر، 2024 9:19 م

الدعوات البعيدة عن الواقع العلمي لا تستقر على أصل ثابت وإن كان المؤيدون لها تتوافر لديهم بعضاً من الحجج والدلائل التي يظنون أنها تفي بالغرض المطابق لنهجهم، علماً أن هذه الحجج لا يعتد بها أمام الحقائق المستخلصة من البيان المتكامل الذي ينظر إليه تباعاً في متفرقات القرآن الكريم، ومن الأمثلة على ما نحن بصدده تلك الدعوات المنادية بعدم اعتبار القرآن الكريم كتاباً علمياً أو تأريخياً أو بعبارة أدق يمكن القول إن وصف هؤلاء للقرآن الكريم لا يتعدى إلى أكثر من جعله كتاب عبادة ليس إلا، وعند التحقق من معرفة النتائج التي التزم بها أولئك الناس نجدها عقيمة ولا تعتمد على شيء من الأصول اليقينية للمنهج العلمي الذي تقوم عليه أسس الحياة الدنيا وما يتفرع عليها من اتجاهات فضلاً عن التغطية الكاملة للعالم الآخر الذي سوف ينتقل إليه الإنسان شاء أم أبى.

فإن قيل: ما هي الدلائل البينة التي تساعد على نقض تلك الاتجاهات؟ أقول: تكمن الدلائل البينة لنقض الأفكار القاصرة التي أشرنا إليها في الكم الهائل من الآيات التي تحتوي على مختلف التشعبات العلمية والتأريخية وما إلى ذلك من طرق المعرفة التي يحتاجها الإنسان، وهذا ما يجعل القرآن الكريم كتاباً علمياً وتأريخياً ولا أقول كتاب هداية لأن العلم متضمن لها وإلا كيف للإنسان أن يهتدي وهو بعيد عن العلم أو عن تأريخ أمته أو الأمم الأخرى المحيطة به من كل جانب، والغريب أن ما يسمى بأصحاب الحل والعقد لا يروق لهم الحديث عن هذا الاتجاه، وعند تعرضهم لموقف يحتاج إلى تحليل ظاهرة من الظواهر تراهم يدّعون أن القرآن الكريم هو كتاب هداية ولكن فيه إشارات من العلوم وما يلحق بها على حد زعمهم وهذا من الجهل الذي ليس له مثيل، وإن شئت فقل هو إثبات من حيث النفي المؤدي إلى التناقض في الكلام، أو ربما يكون لهذا المذهب بعض العلل التي يريدون من خلالها نشر الجهل بين أوساط الناس لأجل أن يحافظوا على المكانة المفقودة التي ليس لها أصل إلا في مخيلتهم.

ولا يخفى على ذوي العقول السليمة أن القرآن الكريم يقدم العلم على جميع النواحي الأخرى المتضمنة للأمور العبادية، ومنها الهداية التي يعلمها هؤلاء الناس على طريقتهم الآيلة إلى الزوال. فإن قيل: يقول تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل 89. وهذا يدل على أن معنى تبياناً لكل شيء لا يعني التفصيل؟ أقول: ليس هناك ما يثبت أن معنى التبيان لا يراد منه التفصيل بل العكس هو الصحيح، ولو سلمنا بأن التبيان لا يعني التفصيل فهذا يقودنا إلى دليل آخر وهو أن التبيان إذا كان من عند الله تعالى يكون المراد منه تفصيل الأشياء على القدر الذي يصل بالإنسان إلى المباحث التي تؤهله إلى معرفة تفاصيل العلوم اليقينية وما يرتبط بها، وهذا هو المطلوب من جهة ومن جهة أخرى نكون قد فهمنا النكتة من قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) الأنعام 38. فإن قيل: ربما يراد من الكتاب اللوح المحفوظ وليس القرآن؟ أقول: إذا ثبت هذا فالقرآن هو جزء من اللوح المحفوظ وبهذا يتم الغرض المراد إثباته باعتبار أن الأجزاء المنزلة من الأصل فيها ما يكفي الإنسان لسد حاجاته

الضرورية وذلك لاستحالة جعل اللا متناهي في المتناهي، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21.

من هنا يظهر أن تبيان الأشياء يعني الدخول إلى معرفة حقائقها ولا يمكن أن يتم هذا الوجه إلا عن طريق القرآن الكريم الذي يرشد الإنسان إلى معرفة كل ما يحيط به، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) الفرقان 33. فإن قيل: كيف يمكن الاعتماد على النهج القرآني إذا اختلف مع الحقائق العلمية؟ أقول: لا يختلف النهج القرآني مع الحقائق العلمية الثابتة، بل يختلف مع النظريات المتغيرة التي لا تستقر على أصل، وهذا ما يجعل الإنسان يبحث عن الحقيقة العلمية التي لا يكتب لها الاستقرار إلا بإيجاد أصولها المبينة في القرآن الكريم سواء تحقق هذا الأمر أو سوف يتحقق في قادم الأيام، كما يشير تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت 53. فإن قيل: ألا يكون هذا النهج سبيلاً لإبعاد القرآن عن كونه كتاب هداية؟ أقول: متفرقات القرآن الكريم تتضمن الهداية، أو أن الصغرى هي جزء من الموسوعة الشاملة التي يرشد إليها الحق سبحانه، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى مقدمات هذا الطريق ما لم يكن لديه القدرة على التفريق بين المصاديق المتشعبة وبين آثارها المحيطة به، أما إذا أخذته الغفلة عن فهم هذه الأصول فههنا تصبح الحجج والبراهين الظاهرة أمامه أقرب إلى الأشياء التي اعتاد على ممارستها، ولهذا انتشر الإلحاد بين الناس، وكان لأصحاب الحل والعقد الدور الأكبر في ذلك إلا ما رحم.

وبناءً على ما تقدم يتضح الفرق بين الفقهاء الذين أخرجوا الهداية عن مفهومها العلمي، وبين أصحاب الاتجاه الوسطي الذين لا يرغبون بإخراجها عن ذلك المفهوم، ولهذا ترى أتباع الاتجاه الأول أشد الناس فقراً إلى التجارب الحياتية، ولا يخفى على المتأمل أن هذه التجارب لا يمكن أن يكتب لها النجاح ما لم تمهد للإنسان دوره العلمي، وكذا معرفته بتأريخ أمته ومقارنته بتأريخ الأمم الأخرى، وهذا ما يفهم من الآيات الكثيرة التي ترشد الإنسان إلى التعرف على الأحداث التأريخية وأخذ العبر منها، كما في قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) الأنعام 11. وقريب منه النمل 69. الروم 42. وكذا قوله: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) الروم 9. وقوله: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) يوسف 111.

والآيات بهذا الصدد كثيرة جداً، ولهذا امتن الله تعالى على بني إسرائيل الذين كانوا في عهد النبي (ص) بما قدم لآبائهم من نعم لا تعد ولا تحصى باعتبارهم الامتداد التأريخي لأولئك الآباء، فقال جل شانه: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) البقرة 49. فإن قيل: قال تعالى في آية البحث: (يذبحون أبناءكم) البقرة 49. وقال: (يقتلون أبناءكم) الأعراف 141. فما وجه الجمع؟ أقول: في هذا دليل على أن القتل تم بمختلف الطرق، وكان الذبح من بينها بل هو أشد الطرق لذا ذكر على نحو الاختصاص. فإن قيل: هل القتل وقع قبل رسالة موسى أم بعدها؟ أقول: وقع القتل بعد الرسالة، بدليل قوله تعالى: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا

اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال) غافر 25. وكذا قوله: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) الأعراف 127. فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص 7. ألا يدل على أن القتل كان قبل الرسالة؟ أقول: خوفها عليه كان بسبب الإيذاء وليس القتل، وهذا ما يثبت عدم صحة الرواية التي يتناقلها الناس عن رؤيا فرعون، باعتبار أن الإيذاء كان سابقاً للرسالة دون القتل، كما في صريح قوله تعالى: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) الأعراف 129.

فإن قيل: لمَ قال تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) البقرة 49. ولم يقل من فرعون؟ أقول: إذا قال من فرعون لم يدخل آله في الآية أما في حال ذكر آله يكون هو قد دخل في الآية من باب أولى، وبهذا يكون الجميع قد اشترك في جريمة القتل إلا ما أخرج بسياق منفصل كمؤمن آل فرعون الذي أشار إليه تعالى في قوله: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) غافر 28. فإن قيل: لمَ عبر تعالى عن البنات بالنساء ولم يعبر عن الأبناء بالرجال في آية البحث؟ أقول: لأن القتل حال بين الأبناء وبين انتقالهم إلى مرحلة الرجولة، أما استبقاء البنات على قيد الحياة فلا يحتاج إلى بيان نظراً إلى ما يلحق ذلك من المراحل التي ينتقلن من خلالها من الطفولة إلى الأنوثة حتى يصبحن نساء. فإن قيل: لمَ قال تعالى في آية البحث: (سوء العذاب) البقرة 49. والعذاب يتضمن معنى السوء؟ أقول: في الوصف المضاف دلالة على وصول الأمر إلى أبعد حالاته في القتل والتنكيل، وهذا ما يجعل العذاب من نوع آخر فتأمل.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن