23 ديسمبر، 2024 2:21 ص

يتفق العقلاء على أن قانون الجزاء لا يخرج عن سنخية الأفعال المأخوذة سلفاً من مقدماتها، بمعنى أن هناك تناسباً طردياً بين ما يقدم عليه الإنسان من فعل ناشئ عن اختياره وبين ما يحصل عليه من جزاء يتناسب وذلك الفعل، مع الحفاظ على ارتباط الشرط بالأصل الذي لا يقاس على المجازفات الجبرية، وهذا ما يجعل النكتة ظاهرة في قوله تعالى: (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) الحجر 39. وكذا قوله: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم) الأعراف 16. أي أنت جعلت فيَ الغواية الملازمة للاختيار الذي فطرتني عليه، وبهذا سأعتمد الشق الثاني من الاختيار، وكما هو ظاهر فإن إبليس يقصد الشق الذي سوف يسخره في إغواء الإنسان، ولهذا صدّقه الله تعالى دون إبطال ما ادّعاه من الغواية التي نسبها إلى الحق سبحانه، وهذا يدل على أن الإغواء لا يعتبر ابتدائياً وإنما يرجع إلى المجازاة على الفعل الذي تقدم منه وهو عدم السجود لآدم، وبناءً على هذا البيان يظهر المعنى جلياً في قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين) الزخرف 36.

من هنا نعلم أن المجازاة على الأعمال الصادرة من الإنسان يكون مردها إلى الأثر المأخوذ من سنخ الأعمال نفسها، وهذا ما بينه الله تعالى في عدد من متفرقات القرآن الكريم، كما في قوله: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة 26. وكذا قوله: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف 5. وقوله تعالى: (فليدع ناديه… سندع الزبانية) العلق 17- 18. وكذلك قوله: (وإن عدتم عدنا) الإسراء 8. ومن هنا كان الخطاب الموجه للمؤمنين لا يبتعد عن هذا المعنى، كما في قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) النحل 126. وبهذا تظهر أسباب المجازاة المترتبة على نوع الفعل والتي ورد ذكرها في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون… الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) البقرة 14- 15. وكذا قوله: (نسوا الله فنسيهم) التوبة 67. وقوله تعالى: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) الأعراف 51. وقوله: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) الأنفال 30.

وهناك جهة إيجابية تقابل هذه الجهة، كما في قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) البقرة 152. وكذا قوله: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) إبراهيم 7. وقوله: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) القتال 7. وبهذا نصل إلى أن الخطاب الموجه إلى بني إسرائيل، في قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) البقرة 40. لا يختلف عن المعنى المشار إليه في الآيات آنفة الذكر، وهذه الآية هي أول الآيات التي ذكّر فيها تعالى بني إسرائيل بالنعم التي أنعمها عليهم، وقد نسبهم الله تعالى في الخطاب إلى أبيهم يعقوب ليثير فيهم الرغبة للاقتداء به، باعتبار أن النسبة إلى الآباء لها وقع على نفس الإنسان عند التذكير بها، وهذا المعنى أقرب إلى قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً) الإسراء 3. وكذا قوله: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) الأعراف 27. وقوله: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغياً) مريم 28.

فإن قيل: ما وجه المناسبة بين الحديث عن بني إسرائيل في هذا السياق وبين ما سبقه من قصة آدم؟ أقول: بعد الانتهاء من قصة آدم وما جرى فيها من تناقضات، انتقل السياق إلى بيان أول المصاديق المتفرعة على

ذلك المفهوم العام وما يشتمل عليه من استقلال اليهود وتحررهم من فرعون واستخلافهم في الأرض، وكذا نسيانهم لعهد الله تعالى، وما تبع ذلك من سقوطهم في مغريات الدنيا، وركونهم إلى الأرض، فهذه الممارسات جميعها تتقارب إلى حد كبير مع ما جرى من قصة آدم وإبليس، بل هي المصداق الأكبر لذلك المفهوم كما قدمنا، وهذا هو سر الارتباط بين القصتين، ومن هنا فقد ذكر الحق سبحانه مجموع النعم التي امتن بها على بني إسرائيل، وكيف قابلوها بالجحود والكفر والعصيان ونسيانهم للعهد ونقضه وعدم الوفاء به.

ويمكن تلخيص مصاديق ذلك العهد على النحو التالي:

أولاً: عهد الفطرة: حيث إنهم نسوا ما أودع الله تعالى فيهم من ميثاق وجعله في فطرتهم وإن كان هذا الأمر يجري في غيرهم إلا أنه أكثر انطباقاً عليهم، وذلك لإيثارهم الدنيا على الآخرة وتفضيلها عمّا سواها، وقد بيّن تعالى هذا الميثاق بقوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بريكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين… أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) الأعراف 172- 173.

ثانياً: عهد الأنبياء: أي العهد المأخوذ على الأنبياء ليبلغوا أقوامهم بمجيء رسول مصدق لما معهم، وبهذا يكون إيمانهم به فرضاً إلزامياً، وهذه سنّة متبعة بين الأنبياء بتبليغ أقوامهم برسالة النبي محمد (ص) ولكن اليهود نقضوا هذا العهد، المشار إليه في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون) آل عمران 187. وهذا يدل على أن عهد الأنبياء لليهود فيه إشارة إلى نعت الرسول (ص) وصفاته، فما كان منهم إلا كتمان ذلك العهد لأنه لم يأت موافقاً لظنهم واعتقادهم من أن النبي القادم سيكون من قومهم، ولهذا كانوا يستفتحون على الذين كفروا بمجيئه، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89.

ثالثاً: عهد الله تعالى إليهم بعبادته وحده لا شريك له: وهذا العهد يتفرع على مجموعة من الأوامر والنواهي المذكورة في قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون… وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون… ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) البقرة 83- 85.

رابعاً: نقض العهد في مؤازرة الأنبياء وتحريف التوراة: وقد بين تعالى نقض هذا العهد بقوله: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل… فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم

قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) المائدة 12- 13.

وبهذا يظهر أن القرآن الكريم قد بيّن جميع الانحرافات التي كان بنو إسرائيل يمارسونها دون تفريق بين عهد الله أو عهد الناس، وهذه هي الصفات التي اعتادوا عليها حتى أصبحت لا تنفك عنهم، ولذلك فقد كان نبذهم لكتاب الله تعالى من الأمور المسلّمة عندهم، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون… ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) البقرة 100- 101. ومن المثير للغرابة أنهم ينقضون العهد في كل مرة دون النظر إلى التقصير في الطاعات أو ما يتفرع على ذلك من قلة الإيمان وضعف التقوى، كما في قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون… الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) الأنفال 55- 56.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن