18 ديسمبر، 2024 11:25 م

قيام الإنسان بعمل لا يحقق الغرض المطلوب يجعله خارج زمرة العقلاء لا سيما إذا كان العمل المقصود لا يتناسب مع الإطار القانوني الذي تبنى عليه الأسس السليمة، وإذا عد هذا العمل من اللعب المجرد أو اللهو الدخيل فإن الذي يأتي به يكون من باب أولى قد ابتعد عن الموازين الكلية التي سخرها الله تعالى للإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن الانتماء اللاحق الذي يضاف إليه، ومن هنا يمكن تطبيق هذا المثال على الأمر العجيب الذي تم بموجبه خلق السماوات والأرض، أي كيف يكون الوصف الذي يؤول إليه الخلق إذا كان الفعل متماثلاً مع العبثية التي لا تنسجم مع النظم اليقينية التي نشاهدها أو تلك التي لم تصل إليها المعرفة الإنسانية، ولذلك أشار الحق سبحانه إلى تنزيه نفسه عن تلك السنخية بمجموعة من الآيات منها قوله تعالى: (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) الأنبياء 17. وكذا قوله: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) الدخان 38. وقوله: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) الأحقاف 3.

مما تقدم نعلم كيف ظهرت المديات البعيدة التي ساعدت على تنظيم التراتبية المسخرة لهذا الكون، وكيف تم إخراجه بهذا الشكل البديع الذي لولا الدأب وتكرار المشاهدة لأصبح الحديث عن كل ذرة من ذراته يحتاج إلى تصنيف مطابق للآيات الباهرة التي يتساوى فيها الجزء مع الكل، لأن النظام المشاهد الدال على وجود الخالق جل شأنه لا يختلف في تركيبه سواء في الخلق والإيجاد أو الفناء والعدم، بمعنى أن كل شيء يدل على وجود إرادة خالقة لهذا الكون ابتداءً من أصغر الأشياء إلى أكبرها، ولا فرق في ذلك بين القرآن الكريم أو كتاب أصل الأنواع فكلاهما يدل على عظيم صنع الله في هذا الكون، وكذا لا فرق بين ناقة صالح وعصا موسى في قبال النياق أو العصي الأخرى، وكذلك لا فرق بين تسبيح الحصى في يد النبي (ص) أو في يد إنسان آخر مهما كانت درجة إيمانه متدنية، لأن كل ما ذكر هو من صنع الله تعالى الذي خلق كل شيء سواء كان بواسطة أو من دون واسطة، وقد بين سبحانه هذا المعنى بقوله: (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) النمل 88.

فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فلمَ أنزل الله آيات إعجازية مع الأنبياء كالتي ذكرتها دون أن تفرق بين مميزاتها؟ أقول: الآيات الإعجازية التي جاء بها الأنبياء لا تثبت وجود الخالق كون هذا الأمر ليس من اختصاصها، وإنما كان الهدف منها هو تأييد الأنبياء في صحة نبوتهم وصدق دعواهم، ولذا أطلق عليها بعض العلماء تسمية المعجزات للتفريق بينها وبين الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وهو وصف صائب وإن أنكره بعضهم ظناً منهم أن القرآن لم يأت به وأنت خبير أن هذا لا يتنافى مع إيجاد المصطلحات التي تحقق الغرض المطلوب من المعنى، وبهذا نعلم أن الله تعالى لا يحتاج إلى معجزة تثبت وجوده فهو ظاهر في الفطرة الإنسانية وإن جحد به الجاحدون، وقد مثل سبحانه لهذا المعنى بقوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) العنكبوت 61. وكذا قوله:

(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) الزخرف 9. وهناك آيات أخرى بهذا المعنى.

فإن قيل: إذا ثبتت هذه الدعوى فما سبب الإشارة إلى الآيات التي يفرق القرآن في بيان نوع القوة التلازمية لكل واحدة منها؟ أقول: القرآن يراعي النظر الساذج في طرحه لمنهجيته المعرفية وذلك كون التكرار الملازم للإنسان قد يطغى في جميع الحالات على مسيرته الحياتية، وبهذا يبتعد شيئاً فشيئاً عن مشاهدة الأدلة الحسية سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، ولذلك نرى أن القرآن الكريم يريد أن يلفت انتباه الإنسان إلى صنع الله تعالى ومن هنا كان التفريق بين صغر الآيات وكبرها، أما الأمر في حقيقته فليس فيه هذا البعد كون الآية ظاهرة في الحجر الصغير وفي الجبل العظيم على حد سواء، وتعليلاً لهذا المعنى نلاحظ مدى التفريق في نوع الآيات، كما في قوله تعالى: ( لنريك من آياتنا الكبرى) طه 23. وكذا قوله: (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) الزخرف 48. وقوله سبحانه: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم 18. وكذلك قوله: (فأراه الآية الكبرى) النازعات 20.

إذا علمنا هذا يكون الأمر قد أخذ مساراً آخر في التفريع وكيف أن الله تعالى قد جعل في كل جزء من أجزاء الكون ما لا يحصى من الآيات وإن شئت فقل كل شيء آية، ولندع الكون وما به من عجائب ولنأخذ الإنسان وليكن هو حسبنا في هذا السرد ولنطرح السؤال الذي يفرض نفسه، وهو هل من الطبيعي أن يترك هذا المخلوق سدى وهو يبصر الآيات في كل حين لا سيما تلك التي ترافقه في تكوينه بل وفي جميع الأعمال التي يقوم بها سواء المادية منها أو المعنوية، وههنا نلاحظ أن الحق سبحانه قد تحدث عن الآيات المصاحبة له وذلك في قوله: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات 21. أي إن الآيات التي يصعب عليكم اكتشاف مكوناتها لا تزال تتكاثر وتنتج كل يوم ما هو أعجب وأغرب وذلك لتفرقها في البدن أو ما يختلج النفس من مشاعر وأفكار، وقد يطلع الإنسان على بعضها في كل لحظة تمر به ليدرك الكيفية التي تتكون منها هيئته المادية وصولاً إلى ما يظهر أمامه من أفعال متفرعة عن الملكات الناطقة أو الحواس المشاركة في التمييز الذي يصنف لديه الخير من الشر أو الحسن من القبح وما إلى ذلك، وهذا التفريق بحد ذاته يعد من أعظم الآيات إذا ما جمع في غاية واحدة دالة على خالق واحد لا شريك له، ثم إذا أمعن النظر إلى ما وراء التركيبات المادية فسوف يرى أن هناك ما هو أبعد منها، كالقوى التي يمتاز بعضها عن بعض وما يلحق بها من تفريعات، ولو شاهد هذه الآيات التي اجتمعت في بناء كيانه لعلم أن جميع ما وجد في نظام الكون قد وجد في شخصه، وهنا تجدر الإشارة إلى ذكر قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) القيامة 36. بمعنى كيف يخلق الله سبحانه هذا العالم بما فيه من غرائب الصنعة التي يكون الإنسان على رأسها وبالتالي يترك وشأنه ليلعب ويلهو ويفعل ما يشاء دون حساب يذكر، وعند تأمل هذا الوجه نرى عدم تناسب المبررات إذا ما وجد بهذا الشكل.

وخلاصة لما سبق يمكن القول إن الله تعالى قد ألزم هذا المخلوق بالعبادة التي تمثل روح الحياة، دون العبادة التي يفهمها القابعون في الظلام والذين لا يريدون التحرر من الأخطاء التي ورثوها عن سلفهم كون المعنى الحقيقي للعبادة يتجسد في إثراء الحياة بما يتناسب مع العيش الكريم في هذه الأرض بعيداً عن الاجتماع الفاحش الذي نشاهده لدى جم غفير من الناس عند استصغارهم لعظائم الأشياء ظناً منهم أن هذا من اللمم الذي لا يحاسب على فعله الإنسان، وهذا تفسير يخالف الواقع بكل مجرياته، كون الخالق

جل شأنه لا يرضى لعباده السير في طريق الضلال، وإن كان ما يترتب على ذلك لا يتعدى إلى أكثر من كلمة يلفظها الإنسان أو شق كلمة، وكما ترى فإن كثيراً من الناس لا يهمهم سوى القول الذي لا يثمر عطاءً ولا يقدم منفعة، فهم يأتون المجالس صفاً حديثهم الدنيا وهمهم الدنيا، ولذلك أصبح دينهم أقرب إلى اللهو واللعب، علماً أن الله تعالى قد تعبدنا بذكره في كل عمل نقوم به، ولهذا قيل إن كل أمر لا يبدأ بذكر الله فهو أبتر وروي هذا الحديث بطرق مختلفة، ومن هنا يجب أن نقارن بين أولئك الناس الذين تعرضنا لذكرهم، وبين الناس الذين لا يفارقهم ذكر الله تعالى في جميع الأعمال التي يمارسونها وقد ضرب الحق سبحانه لهؤلاء الناس أروع الأمثلة بإبراهيم وإسماعيل عند رفعهم القواعد من البيت، وذلك في قوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127.

من كتابي: السلطان في تفسير القرآن