النزاع بين الناس على اختلاف مللهم ونحلهم لم يكن وليد فترة زمنية بعينها أو مرحلة عابرة وإنما هو أمر ملازم للإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض، وما قصة أبناء آدم إلا مثالاً أولياً لما سيحدث في تأريخ البشرية عبر الأجيال، ومن هنا كان وجوباً على الباحثين أن ينظروا إلى هذه القضية العالقة من خلال أسبابها الجذرية المتأصلة، وبالتالي يمكنهم الوصول إلى النتائج المراد تبيانها قياساً إلى متعلقاتها أو الطرق الناشئة عنها والتي لا سبيل إلى حصرها أو إيجاد الحل النهائي الذي يجيز الفرض القاطع لعلاجها، وهذا الطرح يثبت وبلا أدنى جدال أن بُعد الحلول قد أعطى للنزاعات دوراً كبيراً في الانتشار وهذا ما يجعلها في أعلى السلّم المتصدر لعناوين العظام من الناس، واستناداً إلى هذه الحيثية ظن بعض المحققين أن هناك جانباً إيجابياً في كثير من الاختلافات الحاصلة بين أبناء الجنس الواحد، علماً أن الجانب الإيجابي لا يستقل في إظهار الحقائق كما هي في جميع الحالات، وذلك لبعد عامة الناس عن المعرفة الكاملة التي تجعلهم على يقين ثابت لا يتفاعل مع ما عمي عليهم من القرارات المتخذة من قبل أسيادهم، ولهذا كان من الصعب أن يركن الأتباع إلى التصنيف المباشر الذي يساعد على وضع الإرشادات التوجيهية للفرق المتنازعة، وذلك إذا ما نظرنا إلى النتائج والعبر المترتبة على جميع أبعاد النزاع، وقد يلحق بهذا المفهوم العام مجموعة من المصاديق يكون مردها إلى إظهار الحق وإخفاء الباطل دون الميل إلى التأثيرات الخارجية، وفي هذه الحالة تكون الأطراف المتنازعة قد اتخذت مرحلة أخرى تضمن لها جميع الحقوق التي تباعد بينها وبين الأفكار الدخيلة، وإن شئت فقل تباعد بينها وبين المواقف السلبية المتخذة سلفاً من قبل جميع الأطراف المتنازعة. فإن قيل: ما هي الدوافع الأساسية التي لها بالغ الأثر في إذكاء النزاعات بين أبناء الأمة؟ أقول: هنالك عدة دوافع أهمها:
أولاً: الاستبداد بالرأي: وهذا ينشأ بسبب العصبية الجاهلية الغالبة على طباع الناس الذين يتمسكون بها دون اللجوء إلى إيجاد السبل المانعة التي تباعد بينهم وبين معتقداتهم، ولذلك تراهم لا ينظرون إلى المسائل الخلافية بطريقة موزونة، وإنما ينظرون إليها من خلال امتلاكهم للحقيقة المطلقة دون غيرهم، وفي هذه الحالة تصل النزاعات إلى مرحلة يصعب معها الرجوع إلى السلم.
ثانياً: التقليد الأعمى: الجزء الأول من المصطلح لا يصنف ضمن الأفعال المذمومة، وذلك لتقارب الاتجاهات بين المقلَد وبين من سار على نهجه إذا كان الأول لا يزال ملازماً للطرق الوسطى، أما إذا حدث العكس فإن الثاني يكون وبلا أدنى شك من الذين ينطبق عليهم المصطلح بجميع تركيباته، وبالتالي يتم تصنيفه ضمن الناس الذين ينعقون مع كل ناعق، وههنا تكمن الطامة الكبرى التي يرفض أتباعها التخلص منها وبهذا القدر تستشري الأفكار الهدامة بين الناسب بصورة أكثر توسعاً، وهذه هي البذرة الأولى التي يمكن استقلالها من قبل رؤساء الفتنة لتسيير المغرر بهم إلى طرق الهلاك، وإثارة النزاعات بين الناس.
ثالثاً: اتباع البدع: البدعة لا تخرج عن معنى إدخال غير المشروع في المشروع، أما إذا اقتصر المصطلح على الفهم الديني فههنا يكون المعنى ملازماً لإدخال ما ليس من الدين في الدين، كما في قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) الحديد 27. أي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم دون اعتماد الأدلة الشرعية، ولهذا نرى أن لأهل البدع مجموعة من الأساليب التي بنيت على غير شرع الله، واعتماداً على هذا الاتجاه يمكن أن تكون النزاعات قد أخذت طريقها إلى ما
لا يحمد عقباه دون إرجاع الأمر إلى طرقه المشروعة، وقد بين سبحانه هذا المعنى بقوله: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) النساء 59. وهنالك مجموعة أخرى من الأسباب تكاد تكون مرادفة لما قدمنا منها:
أولاً: تأثير الدخلاء على الأصلاء.
ثانياً: البيئة وأثرها على أبنائها.
ثالثاً: اتباع الأهواء والميول السلبية.
رابعاً: الاختلاف في المعتقدات.
خامساً: العصبية القبلية والانتماء.
سادساً: شعور الإنسان بالنقص.
وبناءً على ما قدمنا نعلم أن للأسباب السالفة الدور الأكبر في إشعال نار الفتنة بين الطوائف والفرق على اختلاف مشاربها واتجاهاتها، ومن هنا يجب الاتجاه إلى دعوة القرآن الكريم التي بين فيها سبحانه مدى تأثير الاختلاف غير المشروع الذي يفضي إلى النزاعات التي تؤدي إلى الفرقة، كما في قوله تعالى: (ولا تكونوا من المشركين… من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون) الروم 31- 32.
فإن قيل: إذن ما هي الحلول المناسبة التي يمكن بواسطتها إصلاح حال الأمة وإبعادها عن الصراعات الطائفية؟ أقول: ليس هناك حلولاً مناسبة تجعلنا نطمئن إلى السير بالاتجاه الصحيح الذي يؤمن لنا الطريق السالك للابتعاد عن الخلافات، وذلك بسبب الجهل الذي دأبت عليه الأمة حتى أصبح اليأس يدب شيئاً فشيئاً إلى نفوس المصلحين منهم، ولذلك ترى عامة الناس لا يتقربون إلى الله تعالى إلا بعنوان الرياء، أما العلماء فليس لديهم الدافع الحقيقي للإصلاح، ويمكن إرجاع ذلك إلى حبهم للمال أو الشهرة أو تمجيد السلطان وهلم جراً، ومن هنا نفهم أن الحل لا يتناسب مع الحالة التي وصلنا إليها، ولهذا يمكن تأجيله إلى يوم القيامة وسيحكم الله تعالى بين الطوائف المتنازعة ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون، وقد بين سبحانه هذا المعنى في قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) الأنعام 159. وكذا قوله: (فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) المائدة 48.
وكما ترى فإن الحل لا يمكن أن يظهر عياناً في هذه الأرض وذلك لأن كل طائفة تكفر الأخرى وتثبت أنها ليست على شيء من خلال الأدلة الوهمية التي تفاخر بها كل طائفة في قبال الأخرى، وهذا الأمر يكاد يكون متطابقاً مع أقوال أهل الكتاب أو الذين لا يعلمون وذلك بسبب التقارب الفعلي في الاتجاهات، وسوف تطلع على أقوالهم في آية البحث التي يبين تعالى من خلالها أن كل فرقة منهم تكفر الأخرى، ولذلك تم تأجيل الفصل بينهم إلى يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) البقرة 113. الآية تدل على اختلاف أهل الكتاب على الرغم من تلاوتهم لكتبهم، لأن الكتاب اسم جنس يقع على
جميع الكتب التي نزلت عليهم، أي مع علمهم بما في هذه الكتب إلا أن كل فرقة تنكر على الأخرى اتجاهها الذي سارت عليه، فإذا كان هذا حالهم مع بعضهم فلا يرجى منهم أن يستقيموا على الطريقة التي نادى بها الدين الحق، ومفهوم الآية فيه دلالة لا تقبل اللبس على توجيه أتباع النبي (ص) لفهم هذا الافتراء الذي سوف ينالهم بلا أدنى ريب، ثم بين تعالى أن هذا الاعتقاد الملازم لهم لا يختلف كثيراً عن اعتقاد من لا يعلم الكتاب من مشركي العرب ممن لا كتاب لهم إذا علمنا أن إنكارهم للقرآن من المسلمات الثابتة… فتأمل ذلك.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن