اللسان الذي يطلق له العنان قد يكون عبئاً على المتكلم إن لم يقدر على إرجاع الشواهد النقلية إلى المصادر المخصصة لتبيان العلل الفقهية المستنبطة من كتاب الله تعالى، ولذلك نرى أن أصحاب التفكير السطحي لا يحصلون على المبرر الكامل الذي يمكنهم من وضع الأسس الكلامية في مكانها المناسب، وأنت خبير بأن هذا الفعل سوف يجلب الويل تلو الويل لمن اعتمد على إظهاره بالطرق الخارجة عن المراد الإلهي الذي يناشد به القرآن الكريم، وكذا ما تطرقت إليه السنة النبوية، أو ما نادى به الصلحاء، وخلافاً لهذا الاتجاه لا نجد للدعوات الباطلة ما يؤيدها، علماً أن هذه الدعوات لا تهدف إلى تنزيه دين الله بقدر ما تهدف إلى تشويه الدين وإن كان الثمن بخساً، وإذا أردنا أن نحاكي هذا الأمر الجلل فمن الضروري أن نذكر ما يتطرق إليه الدعاة من البوح الجائر الذي يهتك حرمات الدين من خلال الوسائل الحديثة، أو ما يؤلف ويكتب في جميع المراحل التي يعيشها الإنسان، وعند التعرف على خلاصة هذا الأمر نكون قد التقينا وجهاً لوجه مع أولئك العلماء الذين يبذلون ما بوسعهم من أجل إسقاط التكاليف الشرعية عن جم غفير من الناس الذين لم يصل إليهم التبليغ حسب زعمهم، ولا يخفى على أولي النهى بأن هذا الادعاء الباطل لا ينسجم مع المعطيات الحقيقية التي نزل بها القرآن الكريم، إذن كيف نجعل لهذا الأمر طريقاً وسطاً بين الإنسان الموحد الذي مات على فعل قليل من المحرمات، وبين الإنسان غير الموحد الذي لا يهتدي سبيلاً إلى الابتعاد عن الموبقات إذا علمنا أن الأول لن يغفر له، فيما تكون المغفرة من نصيب الثاني… تلك إذاً قسمة ضيزى. من هنا يجب أن نسأل هؤلاء الناس عن الدليل الذي استندوا إليه في تبرئة الملحدين لا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه وسائل الإعلام وأصبح الناس كلهم ينهلون من منهل واحد، هذا إذا أردنا أن نكون في منأى عن الاعتبارات غير الصائبة.
وبناءً على هذه المقدمة يمكن أن نلجأ إلى الحلول الشاملة التي وردت في القرآن الكريم لنعلم مدى ضعف تلك الآراء المنادية بإلغاء العدالة، سواء أكانت عبثية أو مبنية على أسس خاطئة لا تحكمها إلا العواطف الهدامة، وكما ترى فإن القياسات الفعلية الناتجة عن تلك العواطف لا ترقى إلى التطلعات القريبة من الروح القرآنية، واستناداً إلى هذا المفهوم يمكن أن نربط بين ما ورد في القرآن الكريم، وبين ما يدعو إليه أولئك العلماء لنرَ الفرق بين الاتجاهين، ثم بعد ذلك نصل إلى معرفة الحقائق العلمية المشار إليها في كتاب الله تعالى والداعية إلى عدم مغفرة ذنب المشرك إذا مات عليه، كما في قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً) النساء 48. وكرر هذا اللفظ مع فارق يسير في الآية 117. من نفس السورة. وكذا قوله: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) المائدة 72. وقد يستثنى من هذا البيان بعض الناس الذين لم تقم عليهم الحجة وذلك بسبب ما ألم بهم من ضعف الحال، وقد أشار سبحانه إلى هؤلاء بقوله: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) النساء 98. فهذه الآية وإن كانت واردة ضمن سياق أحكام الهجرة إلا أن العبرة بعموم اللفظ.
واختصاراً لهذا النهج نستطيع أن نضع حداً للنداءات الباطلة وذلك بواسطة التمييز الشامل المراد من الفحوى الناتجة عن طريق الجمع بين الآيات التي تبين أن الأعمال الحسنة المتصدرة لعناوين غير الموحدين لا يمكن أن تقبل وإن كانت سليمة في نفسها، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (والذين كذبوا بآياتنا
ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) الأعراف 147. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) الفرقان 23.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 112. (بلى) إيجاب لما بعد النفي، وقد وردت في أكثر من عشرين موضعاً في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) البقرة 260. أي بلى آمنت ولكن ليزداد قلبي إيماناً… وقد بينا في هذا الكتاب معنى زيادة الإيمان… ومن أراد ذلك فليراجع الآية الثالثة من سورة البقرة.
وفي هذا الشأن يقول الفخر الرازي: إن: (بلى) في هذا الموضع تدل على عدة وجوه منها:
أولاً: إثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
ثانياً: إنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهاناً.
ثالثاً: كأنه قيل لهم، أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك ترغيباً لهم في الإسلام وبياناً لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة، لكي يقلعوا عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة.
ويضيف الرازي: أما معنى: (من أسلم وجهه لله) فهو إسلام النفس لطاعة الله، وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه:
أولها: لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس والفكر والتخيل، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى.
وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) القصص 88. وقال: (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) الليل 20.
وثالثها: أن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خص الوجه بالذكر، ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت… له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت… له المزن تحمل عذباً زلالاً
فيكون المرء واهباً نفسه لهذا الأمر بإذلالها، وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء، وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه، ومعنى: (لله) أي خالصاً لله لا يشوبه شرك، فلا يكون عابداً مع الله غيره، أو معلقاً رجاءه بغيره، وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة.
أما قوله تعالى: (وهو محسن) أي: لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح، فإن بعض الناس يتواضعون لله بأفعال قبيحة، وموضع قوله: (وهو محسن) موضع حال كقولك: جاء فلان وهو راكب، أي
جاء فلان راكباً، ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه، يعني به الثواب العظيم، ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن، فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل، وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل، فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة. انتهى بتصرف يسير منا. ومن أراد المزيد فليراجع التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب للفخر الرازي.
فإن قيل: ألا يدل قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) الأنعام 19. على أن بعض الناس لم يصل إليهم التبليغ؟ أقول: في الآية دليل لا يقبل الشك على أن القرآن الكريم حجة على جميع أهل الأرض، وذلك بسبب أن طرق التبليغ لم تنقطع من لدن نزوله إلى يوم القيامة، فتأمل هذا الدليل إن شئت.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن