22 ديسمبر، 2024 7:25 م

لتدافع المستمد من إلحاق المعاني المثالية بغاياتها المحمولة قد لا يظهر النتائج المطلوبة كما هي ومن هنا فقد عمد المحققون إلى البحث في الجزئيات ظناً منهم أن هذا الفعل قد يجدد لديهم القدرة على فهم المشتركات الواردة في كتاب الله تعالى، وبالتالي فإن وصولهم إلى معرفة الحقائق سوف يكون أقرب إلى فهم التفاصيل المتباينة في السياقات القرآنية، وأنت خبير بأن هذا الفعل لا يخرج عن كونه تحصيل للحاصل ومن الأمثلة على ذلك تفسير الإمامة وإرجاعها إلى علة استثنائية في اختيار الأنبياء قياساً إلى قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة 24. وكذا قوله: (إني جاعلك للناس إماماً) البقرة 124. علما أن الإمامة المشار إليها في الآيتين لم تكن سابقة للنبوة وإنما مكملة لها وهذا الأمر قد يصل بالباحث إلى حقيقة لا مراء فيها وهي أن النبوة لا تأتي على ضوء الخصائص الأثرية التي نشأ فيها الإنسان أو المؤهلات السابقة وذلك بسبب توفر تلك الخصائص لدى جم غفير من الناس.
وعند دراسة هذا الأمر دراسة فعلية نرى أن لهذه الخصائص أنماطاً أخرى ورتباً رفيعة قد تجتمع في أشخاص هم أجدر للقيام بالمهمات من غيرهم إذا ما حصل لديهم الاستعداد المناسب لذلك، وكما ترى فإن هذا الفعل قد يكون مهيئاً لأناس كان لديهم السبق في الوصول إلى أرفع الدرجات على الوجه الظاهر دون الدخول إلى الاختصاص الأسمى الذي لا يستطيع أصحاب الخبرة أن يصلوا إلى تمييز مشتركاته الظنية أو اتخاذ النسب المتفاوتة في التعرف على مكوناته الأساسية من جهة أو جعلها تحت تصرف من هو أهلاً لها من جهة أخرى وذلك لترادف الصفات أو تناقض بعضها مع بعض، ومن هنا وجب على المكلف أن يلجأ إلى التسليم المطلق للاختيار الإلهي، وهذا ما نستشفه من خلال الاطلاع على السمات المعروضة سلفاً في تأريخ الرسالات التي جاء بها الأنبياء على الرغم من تفضيل بعضهم على بعض.
فإن قيل: هل أن هذا التفضيل يلحق بالاختيار المشار إليه أم أن له مسوغات أخرى؟ أقول: التفضيل هو أحد أجزاء الاختيار إذا ما جمعنا معاني الاستئثار التي ليس لها منشأ عقلي أو نقلي يمكن الاعتماد عليه، ولهذا كان من الضروري إرجاع علة ذلك إلى الشواهد القرآنية الكفيلة بمعرفة أسباب الاختيار، كما في قوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) الأنعام 124. وكذا قوله: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) القصص 68. وقوله جل شأنه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) الأحزاب 36. وقوله سبحانه: (وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم… أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون) الزخرف 31- 32.
من هنا يظهر أن الاختيار لا يقتصر على شخص النبي أو البيئة التي ينتمي إليها وإنما يمتد ليشمل أجزاء أخرى ترتبط جميعها بالمستحقات الإنسانية التي يمكن بواسطتها فهم المبادئ الأولية لجهة الاختيار كما هو الحال في اختيار الوقت والمكان أو ما يلحق بهما من أسباب التفاعل الخاص بالأقوام المرسل إليهم علماً أن الإنسان ليس لديه القدرة على فهم الخصائص المتعلقة بهذا الأمر وذلك لعدم اطلاعه المسبق على ما تقتضيه المصالح المرتبطة به، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) البقرة 105. وسيمر عليك تفصيل هذا المعنى في المساحة المخصصة للتفسير.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) البقرة 105. الخطاب موجه للمؤمنين أي أن الله تعالى يحذرهم من حسد أهل الكتاب ومن يلحق بهم من المشركين، بمعنى أن لهؤلاء صفات ذميمة لا يمكن أن تصلوا لمعرفتها إلا من خلال القرآن الذي فيه تبيان لما يبدر منهم، ولذا فهم لا يودون أن ينزل عليكم أدنى خير من ربكم، ومن مصاديق الخير القرآن والنبوة حيث يجتمع في الأول الهدى التام والآيات البينة التي تثبت صدق رسالتكم، وفي الثاني ما يفسر لكم شأن تلك الرسالة والتخلص من العادات الجاهلية والنزعات المتأصلة في نفوسكم، وكما تعلم فإن هذه المعاني كفيلة بأن تجعل أهل الكتاب في الطرف المقابل الذي يريد إبطال هذه القيم والإبقاء على الأعراف المتأصلة التي كانت مرافقة للعرب قبل الإسلام.
ويقول محمد حسين فضل الله في تفسير آية البحث: المسألة لم تنطلق لديهم من حسابات فكرية دقيقة ولا من شبهات معقدة، ولا من موقع يوحي بالرفض، بل كانت منطلقة من عقدة مرضية مستعصية لأنهم اتخذوا منكم موقف العداء، الأمر الذي جعلهم يحسدونكم على ما أنعم الله به عليكم من رسالته التي أنزلها على رسوله ليبلغها لكم (والله يختص برحمته من يشاء) فهو يملك العطاء والمنع وهو يعلم مصالح عباده في ما يعطيهم أو يمنعهم ويطلع على خصائص أوضاعهم الداخلية والخارجية فيصطفي من رسله من يشاء وينزل رسالته على من يشاء تفضلاً منه وكرماً في خط الحكمة الإلهية التي يختص بها عباده.
ومن وحي الآية في حركة الحاضر والمستقبل يقول فضل الله: إذا كان لنا استيحاء شيء من هذه الآية يتصل بحياتنا العملية في الحاضر والمستقبل، فقد نجد أن بإمكاننا الانطلاق إلى الواقع الذي يواجهه المسلمون في كل زمان ومكان في صراعهم مع الفئات الأخرى ممن ينتمون إلى الأديان الأخرى أو إلى المبادئ الكافرة الملحدة، فنلاحظ أن علينا النفاذ إلى الأعماق في دراستنا للحالة النفسية التي يعيشونها تجاهنا، ومدى ما تمثله من مواقف عملية في السر والعلن مما يدخل في عداد المخططات التي تعد ضد تقدم المسلمين وتطورهم وامتدادهم في الآفاق الواسعة الصاعدة في الحياة، وبذلك نستطيع الوصول إلى النتائج الملموسة التي توضح لنا كيف يشعر الآخرون بالخطورة من قوة الإسلام والمسلمين لما في ذلك من انعكاسات خطيرة على موقعهم الفكري والسياسي وعلى النطاق الحضاري بشكل عام، تماماً كما هي الحال في الكفار القدامى من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخافون من قوة النبي محمد (ص) وتعاظم الإسلام على امتيازاتهم الذاتية والطبقية ومواقعهم الفكرية. انتهى.. ومن أراد المزيد فليراجع تفسير من وحي القرآن.
فإن قيل: الآية صريحة في جعل أهل الكتاب أحد مصاديق الذين كفروا كما هو الحال في المشركين فكيف تصح هذه النسبة؟ أقول: يرجع السبب في ذلك إلى عدم تصديقهم بالنبي (ص) وهذا يؤول بهم إلى تكذيب كتاب الله تعالى ما يؤدي إلى حسد المؤمنين كما بينا.
فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين ما تشير إليه آية البحث وبين قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) البينة 1. أقول: ليس في الآيتين تناقض بل فيهما تطابق من جميع الوجوه يبين أصل الاتجاه الذي هم عليه، فكأن الحق سبحانه قد نقل الأقوال التي كان أهل الكتاب يستفتحون بها على المشركين وما قابل ذلك من رد عليهم، ومن هنا كان الجمع ظاهراً في سياق الآيتين أقصد آية البحث وآية سورة البينة، وبهذا تظهر النتيجة في قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) البينة 4. فتأمل ذلك بلطف.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن