المفاهيم الأولية لبناء الكلام الثابت لا يمكن استعمالها دون النظر إلى ما تؤول إليه المصطلحات الموضوعة لها، أما ما نلاحظه لدى مجموعة كبيرة من المحققين الذين ذهبوا إلى إرجاع الألفاظ إلى معان مشتركة فهذا وإن كان مرتبطاً في أصل التقسيمات المتواضع عليها، إلا أن دأبهم في ذلك أصبح من المسلمات التي جعلوها خاضعة للسانهم دون دراية أو تمحيص لما يتبادر منهم، علماً أن بعضهم كان يظن أن هذا الفعل لا يعد من الأفعال الداخلة في الحسابات المعقدة لأصل الوضع، وانت خبير بأن الله تعالى قد جعل لكل شيء حجراً محجوراً لا يمكن اجتيازه إلى العبث من الناحية التشريعية على أقل تقدير، ولهذا نجد الغرابة ظاهرة على ألسنة المجرمين عند وضع الكتاب أمامهم يوم القيامة ليروا أعمالهم مجسدة دون أن يغفل ذلك الكتاب أي جزء منها وإن كان صغيراً، وقد أشار الحق سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً) الكهف 49. وكذا قوله: (وكل شيء فعلوه في الزبر… وكل صغير وكبير مستطر) القمر 52- 53. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) يونس 61. وقريب منه سبأ 3.
من هنا يظهر أن الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من العبء الناتج عن استعمال الألفاظ إذا وضعت في غير أماكنها وإن كان لا يحسب لذلك حساباً، فالكلمة لها وقع على النفس فلا يحق للإنسان التفريط بها أو نسبة معناها إلى اتجاهات عرضية لا تمت لها بصلة، ومن الأمثلة على ذلك ما نشاهده اليوم من الوضع المتردي والضياع الذي وصلت إليه الأمة بسبب الاستعمال غير السليم للمصطلحات ووضعها في أماكن لم تكن مخصصة لها كما هو الحال في مصطلح الجهاد الذي أصبح يطلق على سفك الدماء، أو وصف المجرمين بالمسلمين وهلم جراً، وهذا يجعلنا وجهاً لوجه أمام الألفاظ التي تأخذ أبعاداً لا تتقارب مع المقاصد الصحيحة ما يؤدي إلى دخولها في مرحلة لغو الكلام المجانب للتشريع الإلهي الذي يضع كل لفظ في مكانه المقرر له لئلا يستغل من قبل أصحاب النفوس المريضة الذين يبذلون جهداً كبيراً في جعل الكلام متطابقاً مع ما يتناسب وأغراضهم الدنيئة.
وبناءً على ما تقدم نرى أن الله تعالى قد نهى المؤمنين عن استعمال الكلمات التي توحي إلى معان أخرى لدى اليهود، كما هو الحال في كلمة: (راعنا) التي كان يُقصد منها معنى الرعونة أو أي معنى آخر يحمل الإساءة الخفية للرسول (ص) عند خطابهم له، ولذلك بدل الله تعالى هذا اللفظ إلى لفظ آخر يوحي إلى نفس المعنى المراد استعماله لدى المؤمنين، ومن هنا فقد أمرهم أن يقولوا: (انظرنا) من أجل المفارقة بين المعنيين في التعبير من جهة، ومن جهة أخرى يجعل الأبواب مفتحة أمامهم للابتعاد عن الألفاظ التي توحي بالمشتركات العرضية التي يجد فيها بعض الناس ما يحقق رغباتهم كما مر عليك في سياق البحث، وسيتضح هذا المعنى بصورة أكثر جلاءً في المساحة المخصصة للتفسير.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة 104. المقطع الأول من الآية أقصد قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) ورد في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن الكريم، وهذا التعبير سواء كان بنحو الخطاب أو بنحو آخر فهو لا يخرج عن مراده الموضوع له وهو الإشارة إلى هذه الأمة، باعتبار أن الأمم السابقة لا يعبر عنهم بهذا المعنى بل يعبر عنهم بالقوم أو الأصحاب أو بالبنوة، كما في قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود) ق 12. وكذا قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) البقرة 40- 47- 122. أو يأتي بلفظ إخوان كما في قوله تعالى: (وعاد وفرعون وإخوان لوط) ق 13. ولا يخفى على المتأمل أن المراد من التعبير هو التشريف الجزئي لا غير، وذلك لإخراج النسبة العددية الكبرى من الخطاب إذا لم يكن التوبيخ ظاهراً فيه ومن هنا نجد أن هذا التعبير قد وردت فيه الإشارة إلى الأمم السابقة من باب التجوز دون الخطاب، كما في قوله تعالى حكاية عن نوح: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم) هود 29. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً) النساء 137.
أما المقطع الثاني من الآية وهو قوله تعالى: (لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ففيه مجموعة من الأقوال ذكرها الفخر الرازي في التفسير الكبير أشير إلى بعض منها بتصرف:
أولاً: نهى الله تعالى المؤمنين عن قول: (راعنا) وبدله بقوله: (انظرنا) لاشتمال الأول على معنى آخر كان متداولاً لدى اليهود وفيه إشارة إلى كلمة عبرانية كانوا يتسابون فيها وهي كلمة: (راعينا) ومعناها اسمع لا سمعت ومن هنا كان النهي، ويدل على صحة هذا المذهب قوله تعالى: (ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين) النساء 46.
ثانياً: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يتطرقون إليها إلا عند السخرية فلا جرم نهى الله تعالى عنها.
ثالثاً: إن معنى: (راعنا) مفاعلة من الرعي بين اثنين، فكان هذا اللفظ موهماً للمساواة بين المخاطبين كأنهم قالوا: أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وشدد على ضرورة تعظيم الرسول (ص) في المخاطبة، كما في قوله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) النور 63.
رابعاً: إن قوله: (راعنا) خطاب مع الاستعلاء، كأنه يقول راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره وليس في قوله: (انظرنا) إلا معنى الانتظار.
خامساً: إن قوله: (راعنا) على وزن عاطنا من المعاطاة ورامنا من المراماة، ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة، فالراعن اسم فاعل من الرعونة، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر، كقولهم: عياذاً بك أي أعوذ عياذاً بك.
أما قوله تعالى: (وقولوا انظرنا) ففيه وجوه أهمها:
الأول: من النظر الذي يأتي بمعنى الإمهال، كما في قوله تعالى: (انظرونا نقتبس من نوركم) الحديد 13. أي أمرهم تعالى أن يسألوه الإمهال.
الثاني: قوله تعالى: (انظرنا) معناه انظر إلينا أي من النظر المتعارف عليه إلا أنه حذف حرف الجر كما في قوله: (واختار موسى قومه) الأعراف 155. والمعنى من قومه، وكذا قوله: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) القصص 58. أي بطرت في معيشتها.
قوله تعالى: (واسمعوا) فيه مجموعة من الوجوه أهمها:
أولاً: فرغوا أسماعكم لما يقول النبي (ص) دون اللجوء إلى الإعادة.
ثانياً: اسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكون سماعكم سماع اليهود حيث قالوا: (سمعنا وعصينا) البقرة 93. النساء 46.
ثالثاً: اسمعوا ما أمرتم به دون الرجوع إلى ما نهيتم عنه.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله: (وللكافرين عذاب أليم) أي إذا لم يتبعوا الرسول (ص) في أقواله وأفعاله.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن