ينفلت الواقع في العراق، محطما العرى الوثقى المثبتة لكثير من ميادين الحياة، واشدها رهافة في التحسس والقابلية للانهيار سريعا، مثل عذراء تلتاث باول حب يخطر؛ فيشيب قلبها من شدة الخجل، هو الاعلام.
الاعلام العراقي، نجا، مصطفيا خلاصات المهنة، من تخبطات الطاغية المقبور صدام حسين، الذي لم تؤثر سلبا على جوهر العمل الصحفي، انما خلخل اعراضه فقط، بتحطيم ثوابت المجتمع، وتجويعه، عملا بالمبدأ اللاانساني (جوع كلبك يتبعك).
الا ان المهنة ظلت محصنة بالمهنيين الذين مرروا قناعات مثلى على رقيب مغفل، السوء وانهيارات الاسس والجذور والمبادئ والمنطلقات الاعلامية، جاء بعد 9 نيسان 2003، ليس لان النظام السابق خيرا، انما لان النظام اللاحق شيريرا، فسوء استقبال الادعياء الطارئين على المهنة، للحرية،في ظل غياب الرقابة الحكومية، هو الذي اضر بالاعلام، وعموم التجربة الحضارية، التي كان ينبغي ان تنهض، كالعنقاء من خراب الحروب والعقوبات الدولية – الحصار – التي زجنا صدام فيها، مدمراً ثلث امكانات البلد، واجهز الذين جاؤوا بعده، على الثلثين المتبقيين.
لذا يمكننا ان نقول بان النظام السابق، ان لم ينفع الاعلام، فهو لم يضره، بالقدر الذي اضره سوء تعاطي العراقيين، مع الحرية الاعلامية، بعد تحرير قوات الائتلاف للشعب العراقي من مخالب الديكتاتور صدام حسين.
حول العراقيون الحرية الى انفلات، منذ اليوم الاول لهروب صدام من القصر الجمهوري، الى حفرة تكريت الشهيرة.. من خلال ظاهرة (الحواسم) التي تحولت الى مصطلح اجتماعي معتمد سوسيولوجيا.
في الاعلام حدثت (حواسم) اذ نسب البعض تواريخ شخصية الى ذواتهم، وخير مثال يحضرني هذه اللحظة، شخص غير معروف لاحد، في الوسط الثقافي كله، وليس الاعلامي فقط، هذا الشخص لم تتخطَ اقدامه عتبة استعلامات جريدة (الجمهورية) منذ تأسست الى ان توقفت عن الصدور في 9 نيسان 2003، ادعى انه الوريث الرسمي لـ (الجمهورية) وتسلم رصيدها من سلطة الائتلاف، البالغ مليارات عدة.
وهذا إنموذج لكثيرين (حوسموا) لانفسهم تاريخا لا وجود له.
الحرية التي استحالت انفلاتاً؛ استغلها البعض، باصدار جرائد، لا تخضع لابسط شروط المهنة؛ لأنهم ليسوا صحفيين، ولا يعنون باشتراطات المهنة، فضلا عن محاولات سلطة الائتلاف لخطب ود الشعب العراقي بتفتيت عقده، من خلال السماح بارواء لهفته الشرهة للبيبسي والموز والسيارات والستلايت، ومن ضمنها الاعلام، فراح الهواة، يصدرون جرائد ويبثون فضائيات، من دون فلاتر ولا محددات، الامر الذي تحاول الان الهيئة العامة للاتصالات والاعلام السيطرة عليه، برغم المثبطات النيابية؛ لأن مجلس النواب، يرتبط اعضاؤه بتوجهات حزبية وفئوية، اكثر من ارتباطهم بالعراق، فعملوا على الحد من فاعلية الهيئة؛ كي لا تعطل مرامي وسائل الاعلام الموجه.
انفلتت الفضائيات والصحف، من عقال المهنة، بعد 9 نيسان 2003، سياسيا، حيث توزعت وسائل الاعلام بين الايديولوجيات، تعمل لصالح احزابها بطريقة فجة تطبل لقادة الاحزاب ومراجعها الدينية بصفات تعظمها وتحقر الاخرين، من دون سلطان.. في تعظيم هذا وتحقير ذاك، مخترقة السياقات المهنية، بتكرار الشخصية الواحدة، خمس مرات على صفحتين؛ لان ليس في هيئة التحرير من يفطن الى اعداد تقرير واحد بالاخبار الخمسة.. هذا مثال، والواقع يكتظ بمئات الامثلة التي خربت خلالها السياسة الاعلام.
اما صحافة سياسية بالمعنى الاخباري للسياسة او الاكاديمي فلا… انما لدينا صفحات للاخبار اليومية، كل يغني على ليلاه.. والقارئ لايعرف لمن يصغي، حتى انعدمت ثقته بالاعلام العراقي، واصلا الى قناعة نهائية بان الجميع منحازين، و”افضلها عبادة ذاتي”.
وامنيا يتعرض الاعلام لتهديدات، تطال حياة العاملين فيه، نظير تخلي الشرطة عن دورها؛ فخضع لاشتراطات الاهابيين ومن ضمنهم الفاسدون ماليا وادرايا، وكلنا نعرف بقصة الزميل الذي اتصل برقم (130) يخبره بان ملثمين يقتلون بمنتسبي القناة، فقال له موظف بدالة وزارة الداخلية، ليس هكذا تبلغ، انما اخرج من مخبئك الذي تتوارى فيه عن اعين الارهابيين الذين اقتحموا مبنى القناة، وتعال صف لنا اشكالهم كي ناتي معك لالقاء القبض عليهم.
والحال هذه، من قبل وزارة الداخلية، هل يعد من العدل ان نطالب الاعلام بمواجهة الارهاب وتقويم الانفلات الامني مادامت الداخلية ترسم سيناريو فانتاستك، لملهوف يستجير بها.
الشأنان السياسي والامني، اديا الى انفلات مهني في الاعلام بعد 2003، وبهذا فالواقع العراقي الان يتردى من دون اعلام يرصد حركة الدولة، باقانيمها الثلاثة: الشعب والسيادة والارض.