في الليلة السادسة لعودتي، وبعد ان انقضى وطرا كبيرا من الليل، جافاني النوم ولم يغمض لي جفن. رغم محاولاتي المتكررة، كي أخلد الى النوم حتى أخذ قسطا من الراحة التى كنت بحاجة ماسة لها، فقد كنت متعبا جدا، لأني أمضيت النهار، أتجول في شوارع ودروب المدينة. كانت الوحشة تسود في البيت حتى اني تخليت ان الجدران في هذا الليل الحزين تتكلم معي عن حبيتي التى غادرت هذه الدنيا ولم أتمكن من رؤيتها في ايامها الاخيرة أو على أقل تقدير من توديعها.عندما تأكدت من أني لن استطيع النوم؛ نهضت من على السرير، وخطوت خطوات قليلة لقطع مسافة مترين تفصل غرفة نومي عن غرفة المكتبة خاصتي، وقفت امام رف الروايات، وقبل ان اسحب رواية السيد الرئيس؛ اخذتني صفنة، تآملت خلال ثوانيها، كعوب الروايات التى صفت بعناية فائقة :- حسان يجب تنظيم المكتبة بشكل جيد، تبويبها؛ الروايات في رفوف خاصة بها، وكتب السياسة وكتب الفلسفة، كل صنف في جهة من المكتبة؛ حتى لا تتعب في البحث عن اي كتاب تروم الرجوع إليه او تريد أعادة قراءته..قرأت الصفحة الاولى من الرواية التى كنت قد قرأتها في وقت سابق، قبل سنوات، لكني ورغم محاولتي لتزجية الوقت بها، لم أستطع متابعة القراءة. فقد تدفقت احداثها، واضحة وجلية، من خزين ذاكرتي..وجدتني، استعيد ما لحق بي من حيف.. عندما اطلقوا سراحي كنت حينها كما التائه، سرت في شوارع المدينة، شارع وراء شارع اروم الوصول سريعا الى هناك، حيث تنتظرني زوجتي، فقدكنت في شوق ولهفة لرؤيتها بعد غياب استمر لسنتين. اتذكرها وهي تبغك على عتبة الباب في مثل هذا الليل المسكون بالصمت والخوف. كانت بدرية تشكل لي الحضن الدافيء الذي ألوذ به حين تحاصرني الحياة بأخفاقتها و ألامها التى تحدث في نفسي الكثير من الاحباط، أغتسل فيه، مما علق في روحي من الخيبات. حتى بعد أن لمنا سقف واحد، لم يكن يطيب لي الا النوم في حضنها، اغمض عيوني على ترنيماتها التى تداعب خيالي واشعر بالمتعة الفارطة. ظلت عيناي تنظرها وأنا مطوق بالرجال الذين لم يتكلموا حتى ولو كلمة واحدة؛ فقد كنت أسألهم عن سبب اعتقالي في هذا الليل، لكنهم لم يجيبوا، كانت وجوهم مكفهرة،وهم يضعون في احضانهم،البنادق القصيرة. كنت واثقا من أني لم أت بأي شيء، يستدعي أعتقالي في هذه الساعة من الليل.ومن الجهة الثانية، كنت على يقين تام من أني لن اخرج بسهولة او بعد فترة قصيرة. كنت أجلس لصق الباب الكائن في مؤخرة السيارة، الباب مفتوح، الشرطي الذي يجلس قبالتي، كان قد غفا. داعبت خيالي فكرة الهروب، سرعان ما ابعدتها، عندما رأيت الأخرين، يحضنون بنادقهم التى شرعوا فتحاتها نحوي. قلت مع نفسي: لماذا أهرب وأنا لم أقترف اية جريمة أو أي فعل يمس الدولة أو يخل بالامن العام؟!..هؤلاء الناس لايوجد في الدنيا، من يحول بينهم وبين أن يطلقوا، عند الضرورة، من فتحات بنادقهم الصغيرة هذه، رسل الموت او الاعاقة على ظهري، أن سولت لي نفسي بالهروب. استمرت على وقفتها لاتحرك ساكنا حتى غابت عني عندما ابتعدت السيارة كثيرا وغارت في دورب المدينة النائمة على ضياع وموت ينتظر على الابواب، ربما لبعض النائمين منهم. على هذه الصورة كنت افكر في اعتقالي بلا سبب.. طرقت الباب طرقة، طرقتان، ثلاث ولا احد يجيب، ومن ثم اخذت اطرق الباب بكل ما بي من قوة او بقايا قوة في جسدي الذي اخذ منه الاعتقال الكثير من قوته. ومن ثم لفني الحزن بثوب التوجس والخوف. انصت لاصوت في البيت إلا زقزقة العصفور، لكن لا احد يجيب على الرغم من طرقاتي المتواصلة. جلست لأخذ شئيا من الراحة. أعطيت ظهري الى الباب وبكيت بحرارة وعيناي التى سكبت دموعي على خدي، اخذت على الرغم مني، تبحلق في الشارع الفارغ من البشر ومن اي صوت او من اي نأمة في هذا الوقت من المساء الذي فيه لم تغادر الشمس بعد لتفسح الطريق الى الليل، كان حينها غارقا في الصمت المطبق. سألتني: هل زوجتي نائمة في الوقت من المساء، ربما تكون غارقة في النوم على غير عادتها التى عرفتها بها، فقد كانت لاتنام الليل فكيف بها تنام في المساء، هذا أمر بعيد الاحتمال. في هذه اللحظة أنتابتني الشكوك والخوف.: أتكون قد غادرت البيت في غيابي؟!..كلا فهي قد زارتني قبل اسبوعين، كانت شاحبة جدا، كان وجهها بلون الشمع،كنت حينها، خائفا عليها وعلى صحتها وحياتها، فقد بدت لي، من أنها لاتمتلك من الحياة إلا الصوت الواهن وحركة الجسد الأكثرضعفا.كنت أود أو كانت بي رغبة حينها، بسؤالها عن احولها وعن صحتها، لكنها قطعت عليَ طريق النطق بالسؤال، عندما أخذت، بطمأنتي بأن كل شيء في البيت على ما يرام بما في ذلك، العصفور فهو مستمر في ممارسة حريته التى عودته عليها قبل اعتقالك، قالت لي. مما زاد في ريبتي وخوفي، هو أنني اعرفها وأعرف عادتها في سهر الليل، تلك العادة، كانت قد تعودتها بعد ان مات طفلنا الاول، ذات يوم، مات بعد ان شب وصار صبيا يافعا، يسر الناظر إليه. تعلقنا به، وكان آملنا الوحيد في الدنيا، كنا نبني عليه، المستقبل، فقد نبغ في المعرفة في وقت مبكر، كان يحقق أعلى درجات التفوق في مواد العلم وينبغ في سبرالكلمة وما تحمل من معاني تحت سطوح حروفها. في ذلك اليوم الذي مات فيه، زوبعت الدنيا واندفعت الرياح كما الاعصار، تهاطل المطر حتى فاضت الشوارع والازقة والدروب، كان مطر كالطوفان، لم تشهد المدينة مثيلا لهذه الليلة التى ادلهمت بالخطوب، حتى خيل لنا ونحن نبكي على الأبن الميت، بيننا؛ أن الساعة قد حلت في هذه الليلة. كنت بين الفينة والفينة، افتح النافذة وانظر الى السماء السوداء، التى صارت كتلة من العتمة التى اقتربت من الارض حتى بت لا افرق بينهما. الرياح تصفر في الشارع، لم يكن صفيرا، كان حزنا مموسقا بصوت الريح الذي أخذ يشتد شيئا فشيئا. يُسمعني خيالي في صمت المساء هذا؛ نواح بدرية، في هذه اللحظة التى يجللها الخوف والانتظار، علها تستيقظ وتفتح الباب مع أن في قرارة نفسي، أنها لاتنام في هذا الوقت، خيالي يُسعفني في تلبية حاجتي،للأطمئنان عليها وعلى وجودها؛ أنها نائمة. وراء الباب زقزقة العصفور على انغام نواحها، الذي زرع في نفسي الامل الضعيف، بوجودها في البيت، لكنها نائمة. الشيء الذي اثارني هو صوت العصفور، كانت صوتا يتيما،يزقزق بصوت اقرب الى النواح منه الى الزقزقة. نهضت والدموع امتلىء بها فمي. طرقت الباب بقوة أو بكل ما في ذراعي من قوة، تابعت ضربي على وجه الباب بلا هوادة وبقوة تزداد مع كل ضربة. – من؟!.. حسان.. التفتُ، كانت تقف فوق رأسي، الست صفية، زميلة بدرية في مهنة التعليم وصديقتها وجارتنا. نعم.. قلتها بصوت خفيض به خنة وبحة، ملؤهما وجع اللحظة في الواقع والمتخيل، التى احسست بثقلها على نفسي..دخلنا أنا وهي الى داخل البيت.. لم أسالها عن صاحبة البيت وعن هذه الفوضى فيه، فقد عرفت ما حل بها؛ كان كل شيء في البيت يشير الى انها، قد غادرت هذه الدنيا الى الحياة الاخرى. العصفور لم يخرج من القفص مع ان الباب كان مفتوحا، ظل واقفا، فيه، على العارضة التى تتوسطه، وكف عن الزقزقة،يحدق فيَ، نفس تلك التحديقة التى كان بها ينظرني، عندما ينتظر مني ان افتح باب القفص كما هي عادتي منذ ربيته ولم ينبت الريش بعد على جسده. كانت كلمات جارتنا وهي تشرح لي ما حل بصديقتها، في السنتين الماضيتين الى أن ماتت ذات ليلة، قبل ايام. كان صوتها ينأى عني، كأنه قادم نحوي من وادي عميق الغور. لم يلتقط مسمعي مما كانت تشرح بنبر مختنق بالعبرة التى تتكسرت مع كلماتها، في حلقها، سوى؛ بدرية، العصفور، باب القفص المفتوح، ووصايا بدرية، وماء وطعام العصفور الذي لايزال ينظرني مرة ومرة اخرى الى اناء الماء والطعام على ارضية القفص، الى أن ودعتني وخرجت على ان ترجع بعد قليل. حاولت ان اغماض عيوني، للهروب والتخلص من حصار اوجاعي التى تتدفق من خزان ذاكرتي، نزولا لرغبتي في التحرر مني، كي أمنح جسدي، قليلا، من الاستراحة ومساحة من الزمن للراحة ولو لدقائق، لكني، على الرغم من التعب والانهاك الذي هد جسدي من كثرة الدوران في طرقات واسواق المدينة، وما اشعر به من نعاس، لم اتمكن من اغلاقها، واصلت تآملي في العصفور والسقف وباب البيت الذي تركته مفتوحا على مصراعيه، عندما رجعت في أول الليل..كانت دوامة المطر الغزير والريح العاصف، تضرب زجاج النوافذ وخشب باب الدخول،وأنا ابكي بصمت، وبدرية تنوح، بأتظار ان ينبلج الفجر ويأتي الصبح،في ألم الانتظار هذا، دنت مني وقالت: ألم أقل لك ان شروق، لم يمت، انظرإليه، كيف فتح عيونه، أنه يتبسم. : شروق ميت، لقد شبع موتا منذ المساء، قبل ساعات، يا بدرية، قلت لها. لكنها ظلت تولول ولم تقتنع، كانت تصر وتعاند الموت الذي يخيم على البيت بثقله الثقيل في تلك الساعات التى كنا فيها ننتظر شروق الشمس. حتى بعد ان دفناه في المقبرة القريبة من باب الطلسم، وعدنا الى البيت، نحمل على كتفينا الخذلان والخيبة. فقد خسرنا رجلا أو مشروع رجل، يحمل في رأسه وعلى ساعديه، مستقبلا، انتظرناه طويلا، لم يعمر سوى بضعة سنين. واصلت بأصرار، وهي تحاول ان تقنع نفسها بأن شروق حيا، لم يمت.عيناي تبحلق بقوة مني، أدفعها على البحلقة في السقف والجدران والعصفور الذي خلد منذ ساعات الى النوم، بعد أن اغلقت عليه، باب القفص حين رجعت قبل ساعات الى البيت. كان السكوت المهيب والمشحون بشتى الخيالات التى ما انفكت تتوارد امامي كما شريط سينمائي، وأنا بين الغفوة واليقظة. عيناي التى انهار جفناها وضعفا امام زحف جحفل النعاس، صارا يلتقيان اكثر بكثير مما يبتعدان. عندما فُتحَ الباب، مددت عنقي لأرى من ولج في هذا القطع الاخير من الليل، قبل ان ابصر من جاء، كان صوت بدرية يسبق ضرب اقدامها على ارضية المدخل: أنظر لقد جاء معي، شروق. تقدمت نحوي بسرعة، كان برفقتها، شاب وسيم، لم يكن منظره وشكله غريبا عني.: انه شروق، لقد عاد بعد غياب طويل،شابا مكتمل الرجولة. تقدم هو بخطوات وئيدة وثابته في آن، حتى اصبح على مقربة مني، انحنى وقبلني في رأسي، وهو يقول يا أبي لقد ألمني فراقكم، كنت خلالها، أجهز نفسي، كي يكون في وسعي، خدمتكم. نهضت لأحضنه. رن صوت السقطة كضربة مطرقة الحداد في ظهيرة قيظ الصيف. نظرت الى ساعة يدي، كانت عقاربها تؤشر؛ أن الوقت قد تجاوز الساعة العاشرة صباحا. على المنضدة الصغيرة عند رأس السرير، رأيت عليها؛بيضتين مسلوقتين وقرص من الخبز وكوب مملؤ بالشاي. القفص قبالتي، فارغ، لقد غادره العصفور. اثناء ما كنت اغسل وجهى، عاد العصفور، حط على كتفي، استمر على هذا الوضع وهو يزقزق،الى أن جلست لتناول فطوري الذي احضرته صفية، قبل حين من الآن؛نزل واخذ يشاركني، الطعام والماء..